عقد الراية من التقاليد الأصيلة عن طائفة الموحدين الدروز، وإليكم أصولها:
عقد الراية هو المرحلة الأخيرة من المصالحة بين الفرقاء المتخاصمين والمتعادين، يسبقها حدوث الجريمة المقصودة في أغلب الأحيان، كخلاف طارئ يؤدي إلى مشاجرة تفضي فيما بعد إلى القتل، أو أحياناً في حالات الأخذ بالثأر علماً أنها تناقصت بشكل كبير بسبب وجود المحاكم وسيادة القانون.
يتدخل الوسطاء لحل النزاع ونقله من قضية اجتماعية بين عائلتين أو عشيرتين إلى ذوي القربى، وهنا تبدأ عملية الوساطة بتهدئة النفوس واستبعاد الأخذ بالثأر أو الاقتصاص من القاتل أو من ذويه، وسلاح الوساطة في هذه الحال هو الفعل والفعل المضاد وتكرار هذه العملية، ومن الأسباب المساعدة والتي تسهل عمل الوساطة هو إبعاد القاتل إلى مكان نائي وضمان عدم احتكاكه بالفريقين، أو وجوده في السجن.
تنص العادات والتقاليد على وجود فدية أو تعويض، وفق ما ترسمه العادات والتقاليد ويترتب على ذلك عدم المساومة أو تطويقها، فإذا ما تم الاتفاق بالجاه والوجه وتكرار الوساطة وتقديم الحلول المقنعة، وإبداء فروض الاحترام والتقدير وتثمين هذه التضحية عالياً، حتى أنها تعتبر بحال القبول ليست بفضل على أهل الجاني فقط، بل على المجتمع بأكمله لأن السلام في ربوعه هو الغاية المثلى للصلح والمصالحة.
إذا ما وصلت الوساطة إلى هذه النتيجة يحدد موعد لإجراءات الصلح أي لعقد الراية
مراحل عقد الراية
يدعى الفرقاء وكل من أقاربهم للحضور في مكان معين، تكون الوساطة هي الضمانة لتقابل الفريقين في مكان وموعد محدد.
عند تقابل الفريقين بمسافات معينة يحددها المكان، يتقدم الوسطاء من أهل المجني عليه باسم أمن الوطن وسلامة المجتمع وبأحكام الله عز وجل الذي قدر ما حدث، والتسليم بقضاء الله وقبول ما ترسمه العادات والتقاليد من آثار مادية ومعنوية، وقبول هذا الحشد الكبير من الناس الذي يشهد مراسم الصلح وقبول الصلح وإعلانه بعقد الراية.
الراية هي عبارة عن شاشة بيضاء مربوطة إلى رمح، والرمح هو رمز العزة وسلاح الدفاع عن النفس حيث يجب، والشاشة البيضاء هي الوثيقة أي الورقة التي يكتب عليها شروط وإجراءات ما اتفق عليه، ولما كان هذا متعذراً في الماضي البعيد وحتى في الحاضر، استبدلت الورقة براية بيضاء، لأن الوثيقة أو الورقة توقع بين شخصين فقط، أما الراية فيراها كافة الأطراف وتوثيق هذه الشاشة وربطها على الرمح يعني التوقيع أمام الحضور المتواجدين كشهود على الواقعة، هذه العقدة على الرمح تعقد مراراً وتكراراً من قبل ذوي القربى بالتتالي إضافة إلى بعض الأصدقاء إضافة إلى شيخ الحمولة أو قائد الحمولة من أهل الجاني.
عند ذلك تعود الواسطة إلى الجهة المقابلة حاملة هذه الراية البيضاء والتي هي دليل صلح، ثم يستدعون أهل المجني عليه للاقتراب مسافة معينة لكي يكون صوتهم مسموعاً أمام الحضور، لتعلن الواسطة أنهم قبلوا الصلح وعفو عن الماضي، ويطلب بعدها الكفلاء والذين هم كفيل وفا وهو الذي يضمن التعويض المتفق عليه، ومتعارف عليه اليوم بإسقاط الحق الشخصي أمام المحاكم، حيث لم تكن هذه الإجراءات موجودة في السابق.
الكفيل الآخر هو كفيل دفا وهو الذي يضمن الطرف الآخر بأن لا يقوموا برد فعل أو بنقض الصلح، كفيل الدفا يطلب من أهل المجني عليه سواء أكان من عشيرتهم أو من خارجها أو من الوساطة ذاتها، ويسمى بالاسم سواء كان شخص أو عدة أشخاص، أما كفيل الوفا يطلبه أهل الجاني.
يعود أصحاب الرأي أو الواسطة لتقول: إن الطرفين قد سموا الكفلاء، فهل تقبلون بهم؟.
في حال القبول يتقدم الكفلاء ويقولون التالي: “اشهدوا يا أهل الحمية.. ضيوف ومحلية.. والحاضر يعلم الغايب.. بأنه تمت المصالحة بالحضاء والرضاء.. على ما اتفق عليه.
شاملة كل أصحاب المجني عليه، بالمجني عليه من الحاضرين والغائبين، من الذين بالبطون والظهور” ويكون ذلك بمثابة ضمانة للأجيال القادمة.
يرد عليهم أصحاب العلاقة من المكلفين سواء بالدفا أو الوفا: “قبلنا ويشهد الله على ذلك”، ويعقد الكفلاء الراية فوق ذلك.
بعدها تسلم الراية إلى شخص ذو صوت جهوري لكي ينادي ويشهد الناس على ما جرى قائلاً: “اشهدوا يا أهل الحمية.. حضور ومحلية.. أن أصحاب العلاقة (ويطلقون مديحاً متعارف عليه لأهل المجني عليه) بيض الله وجههم” ويكرر هذه العبارة ثلاث مرات، لتأخذ الواسطة بيد أهل الجاني والذي يكون في أغلب الأحيان إما في السجن أو مبعد، ليصافحوا أهل المجني عليه.
بعدها يدعى كافة الحضور إلى “الملحة” وهي أكل الخبز والملح، وهو إعلان للسلام والأمان والحياة من جديد
في حال القتل غير المقصود
تقوم الواسطة بما تقدم ونتيجة لتكرار الحوادث يقوم الفرقاء المعنيين بتجاوز كل هذه الإجراءات لأنها تأخذ وقتاً طويلاً، وتترك بعض الحساسيات بتسمية الكفلاء، لذا يكتفى بالتقابل بين الفريقين وإلقاء الخطب الودية والكلمات الودية من الواسطة بين الفريقين، هذا يقول قبلت الصلح وأعفو عن المسبب، والفئة الثانية تقوم بشكر وتقدير تضحية أهل المجني عليه
والصورة المرفقة من عقد راية الصلح في مدينة جرمانا في ستينيات القرن الماضي ما بين آل بركات وآل كرباج في حادثة وفاة ابن المختار ابو النور بطريق الخطأ حيث قام يومها المختار بالصفح والمسامحة والتشويم