الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله المصطفى الصادق الهادي الأمين وعلى آله وصحبه المنتجبين وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد انَّ الله سبحانه وتعالى العلي الأعلى المُبدِع “رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ “(1) العزيز الغفّار، الموجود الأزلي بلا بداية ولا نهاية، المنزّه بذاته بلا مكان ولا زمان ولا أينيّة ولا كيفيّة، القادر على كل شيء وهو أحكم الحاكمين، منَّ على الإنسان من عظيم فضله وكرمه بنِعَم مُقررة بِمقدار وسعه وطاقته.
فقال تعالى: “ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ .(2)
لقد خاطب الله سبحانه وتعالى خلقه قائلاً: أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ (3) ومنذ ذلك الوقت، لم يُخلِهم في كل عصرٍ وزمان من أنبياءٍ ورُسُلٍ يُذكروهم مَنسيَّ نعمته حيث قال عز وجلّ: “فذكِّر إنّما أنت مذكِّر”(4).
فالوحي الإلهي يُبلَّغ بواسطة بشرية، هو خليفة الله في الأرض، يشافه الناس ويصنع المعجزات بتأييد الله تعالى ليهدي الأمة المُتخيّرة إلى الصراط المستقيم والسَنَن القويم. وكان هذا في لدن آدم(ع) الذي أطلعه الله تعالى على مكنون علمه والأسماء كلها فخرّت له الملائكة سجداً.
لقد شاءت الحكمة الإلهية، أن تكون قوة للشر تضادد هداية الرُّسلِ وتتمثل بإبليس اللعين، الذي حسد آدم الكريم ورفض السجود له؛ رغم إنه مقرّ بالعزة الإلهية، ولكن لا جدوى للاعتراف بوجود العظمة الإلهية إن لم يُقرن بالطاعة لمن أرسله تعالى هدىً وحجةً ونعمةً للآخرين. ومنذ ذلك الوقت، بدأ الصراع بين الحق والباطل، بين النور والظلمة وبين الهدى والضلال. ثم نُقِل الصراع إلى داخل النفوس المتلقّية لآثار الهدى والضلال سوا، فكان جهاد النفس هو الجهاد الأكبر.
لقد جاء بعد آدم نوحٌ ورُسُل كُثُر من بعدِهِ (عليهم السلام) وصولاً إلى خاتم الأنبياء (صلعم) يرسِّخون قاعدة الهدى ألا وهي عبادة الله وتقواه، والاعتراف بمن أرسلهم حُجّة للعالمين.
أما إبليس لعنه الله، والذي طُرِدَ من الجنَّة لرفضه طاعة آدم (ع)، أقسم أنه سيُغِوي الخلق أجمين. فدعا في كل وقتٍ ومن خلال دعاته المذمومين إلى اتخاذ أصنامِ أشخاصٍ ليواجه بذلك دعوة الحق المتمثّلة برسول الهدى.
لقد كان لإبرهيم الخليل (ع) الدَّور الأبرز في كسر عبادة الأصنام بالحجة الصَّادعة، وإثبات الواسطة بالرسول. فكان أخطر ما في الأمر أن يَبُثّ الشيطان أعواناً له أدركوا معنى الكمال في الإنسان، فتجاوزوا مفهوم خلافة الله في الأرض إلى دعوى الربوبية كما فعل النمرود وفرعون لعنهما الله.
ثم أتى بعد ذلك كليم الله موسى (ع) إلى بني إسرائيل، والذي خاطبه عز وجل على جبل الطّور، كما قال تعالى في سورة الأعراف:” وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي…”(5) فقوله تعالى: لن تراني لا يُبطل رجاءَ المحقّين، ولا يبعث يأساً في نفوسهم، بل يبثُّ الأنس فيها ويقوّي الرجاء، ويُضرم نار الشوق ليوم اللقاء؛ لن تراني في الدنيا تشويقاً له لإنجاز الوعد المحتوم في الآخرة.
بعد ذلك، جاء السيد المسيح (ع) حيث كان آيةً معجزةً بأفعالهِ لأنه أتي بالظهور المعجز الخارق الذي يبهتُ المبطلين، ويكشف زيف المكابرين؛ عمي يُبصرون، عرجٌ يمشون، برصٌ يطهرون، وأموات يقومون…
أما خاتم الأنبياء محمد (ص) فقد أتى بمعجزة عصره ألا وهي كتاب الله المبين، القرآن الكريم الذي فصل بين الحق والباطل، وهو معجزة معنوية باقية مدى الأيام والدّهور، وصرحٌ نوارني وحرمٌ قدسي، وبحرٌ محيط مليءٌ بالدرر.
والناس مع القرآن ثلاثة أصناف: صنفٌ لم يجد تعلُّم الأمثال التي ضربها الله في كتابه، وجرت بها السُّنة النبويّة، لتكون تدريجاً وتدريباً لإدراك حقائقه المتعالية، ومثلهم مَثَل من لا يُجيد السِّباحة وإذا تصَّدى للغوص فمصيرُهُ الغرق.
وصنفان ناجحان: أَوَّلهما مؤمنون مصِّدقون بالحقيقة، ولكن تعوزهم القُدرة والهمّة والشجاعة والإقدام، ومثلهم مثل من يُجيد السباحة ولكنه يخشى الغوص في الأعماق، حيث الدُّرر في قعر البحر.
وصنف أعلى تفوَّقوا في النَّجاح، ولم تكن غايتهم من تعلُّم السَّباحة رياضة النَّفس وحسب، بل شوقهم وتوقُهُمْ ان يغيبوا عن سطح الآفاق غوصاً إلى الأعماق، لينالوا الدُّرر الفاخرة التي تُبهِرُ الآماق وهم أهل التقوى والعلماء حيث قال عزّ وجلّ: “وإنّما يخشى الله من عباده العلماء”. فلهم فتحت أبوابُ النِّعمة، وإيَّاهم أَعنى رسولُ الرَّحمة عندما قال: “إنَّ من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلاَّ العالمون بالله”.
لقد كان في حكمة التَّشريع الإسلامي ان يجمع الإسلام تحت رايته أصنافاً مختلفة من المجيبين، فقال: ” لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ “.(6)
والموحدون الدروز كغيرهم من المذاهب الإسلامية يعتقدون بوحدة حقيقة الإيمان في كافة الرسالات السماوية، عملاً بقوله تعالى: “قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ صدق الله العظيم” (7)
وآخر دعوانا أن الحمد الله الذي خلقنا فهو يهدينا والذي هو يطعمنا ويسقينا وإذا مرضنا فهو يُشفينا والشكر لرسوله القائم بأمره الصادق الوعد الأمين.