خير مدخل لهذا العنوان ان نتذكر ان النفس الناطقة هي جوهر بسيط روحاني خالد، شعاع من نور الله الشعشعاني. هي جوهر الإنسانية في الإنسان، بل هي بذرة الألوهية في أرض وجوده الإنساني.
هي التي خص بها الله الإنسان دون سائر الكائنات الحية ليجعل منه سيّد هذا الوجود وغاية معناه. ولقد أعزّ الله الإنسان بالعقل ليعقل ذاته ويعقل سائر الموجودات، ويعقل معرفته بالصِراط المستقيم. وعاد وأعزّه بالحرية، فجعله المخلوق الوحيد الذي يتحرك حركة حرّة تجعله يختار أفعاله بملء إرادته دون إكراه أو إجبار. وأعزّه ثالثاً بالمسؤولية، فهو المخلوق الوحيد المسؤول عن تصرفاته لأنها نابعة من إرادة حرة تنفّذ تعاليم عقل حرّ يميِّز بين الحق والباطِل. ولهذا كان الإنسان المخلوق الوحيد الأخلاقي في هذا الوجود القادر على التمييز بين العزّة والمذلّة، بين السمو والانسفال، بين الانجذاب الى العدالة والمروءة والشجاعة والنبل والكرم، أو الانجذاب الى الشهوات في سائر انواعها والى الجشع والطمع والبخل التي تجعله يخسر حقيقة وجوده بأنه كائن اجتماعي بالفطرة. وجعل الله لوجود الإنسان غاية، إذا أراد أن يحقق إنسانيته، عليه أن يسعى اليها بكامل ما أوتى من قوة معنوية ومادية وهي معرفة الله سبحانه وتعالى عبر معرفته لنفسه بأنها قبس من نور الله روحاني بسيط خالد. وما الجسد إلا آلة تستعملها لاكتساب علمها وعملها من خلال جوارحها، ولكن أكثر الناس جذبتهم الراحة والإباحة واختاروا طريق الانسفال حتى هانت عليهم جواهر نفوسهم، فباعوا عقولهم وتنازلوا عن واجباتهم ومسؤولياتهم فغدوا كالانعام بل أضلَّ سبيلاً.
قال المتنبي:
فالنفس الأبيّة لا ترضخ لظلم او استبداد.
قال عنترة:
قال الأخطل الصغير:
النفس جوهر لطيف، واللطيف الى اللطيف يرقى وينجذب ويحي. وأما من أذلّ نفسه بالشهوات والأطماع، غدت نفسه جوهراً كثيفاً والكثيف الى الكثيف يهبط ويفنى.
قال المتنبي:
فالإنسان إذا فقد عقله فقد هويته كإنسان وغدا إسماً لغير مسمّى، أما إذا فقد عضواً من أعضاء جسده يبقى إنساناً سوياً يفكر ويعبّر. والإنسان بالبديهيات وبالفضائل من جوهر عقله وبما اكتسبه من علم المنطق والتجارب الحيّة، يعلم ان العدالة فضيلة والظلم رذيلة، والمروءة فضيلة والتخاذل رذيلة. فكيف بعد ذلك كلّه يبدّل الإنسان ما يُسعد نفسه بملذّات يظنها تسعد جسده، ولكنها تعود لتنقلب عليه على قاعدة ان لكل تصرف ردة فعل تساويه في القوة. فشوك الظلم لا ينبت ورداً، والكذب لا يثمر عنباً وتيناً، ولكن الإنسان يظلم نفسه قبل أن يظلم الآخرين، ويُحاسَب بِما جَنَتْهُ يداه.
وبما أن العادة إذا طال الزمن بها تصبح طبيعة، أصبح من اعتاد المذلَّة طبيعته مجبولة بالتخاذل والعبثية.
قال المتنبي أيضاً:
فالإباء الذي هو القدرة على التمييز، لا يمكن أن يكون بَيْنَ بَينْ.
قال الشاعر دانتي: “بين المغرور بماله والفقير الأبيّ اختار أن أكون الثاني”.
وقد صدق السموأل حين قال:
اذا المرء لم يدنس من اللوم عرضه فكل رداء يرتديه جميــل
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها فليس الى حسن الثناء سبيل
فهل نستطيع رفع رؤوسنا، وهو من ثمار العزَّة والإباء، في هذا الزمن الذي يسوده الإصراف الفادح، والحاجة الى المال أصبحت دائمة مهما أُعطِيَ الإنسان منه لا يشبع؟
ليت شعري هل بقي لهذا الكلام من معنى وأبناء هذا الوطن البائس يشربون كأس التنافر والمخالفة حتى الجمام. فهم في وردهم يتشرذمون وفي صَدرِهِمْ يتحاججون، وكأنهم لم يقرأوا أن يد الله فوق يد الجماعة، أو كأنهم لم يسمعوا ان لأبناء العقل نوراً يمشون به بين الناس. هو نور التآلف والتضامن والمحبة والمؤازرة، إنه نور العروة الوثقى وهو الذي أمرنا بالتمسك بها ليكون لنا مكاناً تحت سدرة المنتهى حيث السعادة القصوى. إنها نظام وانتظام وتوازن وانسجام وتآلف وشوق وانجذاب الى المُثُل العليا.