يقولُ الإمامُ البَيضاوي في تفسير الآية الكريمَة من سُورة الفاتِحة ﴿الحَمدُ لله ربِّ العالَمِين﴾ إنَّ “الرَّبَّ في الأصلِ مصدَر بمعنى التَّربيَة، وهيَ تبليغُ الشيء إلى كمالِه شيئًا فشَيئا. وفِي “كلام العرَب فإنَّ الرَّبَّ منصرفٌ على معانٍ، منها السَّيِّدُ الـمُطاع، والرَّجُل الـمُصلِح، والمالِكُ. فربُّنا جلَّ ثناؤهُ السَّيِّدُ الذي لا شِبهَ له، ولا مِثلَ في مِثل سُؤدُدِه، والمصلِحُ أمْرَ خلقِه بما أسبَغَ عليهِم مِن نِعمِه، والمالِكُ الَّذي لهُ الخلقُ والأمرُ” (الطبري). ويُطلَقُ الاسمُ بالإضافَةِ أيضًا على المدبِّر والمربِّي والـمُتمِّم، وعلى كُلِّ قَيِّمٍ على أشكالِه، فلذلِك يُقالُ “ربُّ العائلة” و”ربُّ البَيت” و”ربّ العمَل”… وفِي اللغةِ: رَبَّ وَلدَهُ تَرِبَّــةً بمَعنى رَبَّاهُ. وفِي الحَديثِ: لكَ نِعمةٌ تَرُبـُّها، أي تحفظُها وتُراعِيها وتُربِّيها كمَا يُربّـِي الرَّجلُ وَلدَه. وربَّاهُ تَربيَةً يعني أحسَنَ القِيامَ عليه، وَوَلِيَهُ حتَّى أدركَ أي فارقَ الطّفوليَّة.
إنَّه ليسَ من نافِل العِبَر أن يكونَ فِعلُ التَّربيَة له هذه الجذُور العميقة في اللغة، فالتَّربيَة شأنٌ عَظيم لا يجُوز التّهاون فيه أبدًا، بل يجبُ على الأهلِ الاضطلاع بأعبائه بكلِّ مسؤوليَّةٍ لارتباطِ ثمرته بغايةِ الوجود. وللتَّربيَةُ وُجوهُ تدبير تشتملُ على معانٍ ومتطلِّبات جليلة مرتبطةٍ بالواجباتِ المسلكيَّة والعمليَّةِ الملقاة على عاتِق جناحَي الأسرة العتيدة، وإنَّ من شأن إهمال التأمُّل بمقتضياتِها الأساسيّة، والمبادرة إلى النّهوضِ بتحقيقِها، أن يُفضي إلى تبِعاتٍ لا تُحمَدُ عقباها، ومنها:
الوقاية:
قال الله تعالى في كتابِه الكريم ﴿يَا أيُّــها الَّذينَ آمَــنُوا قُــوا أنفسَكُم وأهلِــيكُم نارا﴾ (التحريم: 6)، أي أدِّبُوهُم وعلِّموهُم (علي بن أبي طالب) وقال “علِّموا أنفسَكُم وأهلِيكُم الخَير”، و﴿قُوا﴾ هو فِعلُ أمرٍ من الوقاية “بمعنى الحِفظ والحماية والصّيانة، وذلك بالنّصح والتأديبِ والتَّعلِيم” (روح البيان)، وأولَى بالنّاصِح والمؤدِّب أن يكونَ لِذلكَ أهلاً، وعلى الأخصّ إذا ما كانَ فِي مقامِ “ربِّ العائلة” ووليّها.
الرِّعاية:
هيَ القِيامُ على الشَّيءِ بحِفظِه، ومراقبتِه، وإصلاحِه، وصَونِه، والقِيامِ به حقّ القِيام. لقد جعلَها النبيٌّ r أمانةً في أعناق المؤمِنين حين خاطبَهُم كافّة بالحديثِ الشَّريف: “كلُّكم راعٍ، وكلُّكُم مسؤولٌ عن رعيَّــتِه: الإمامُ راعٍ ومسؤولٌ عن رعيَّــتِه، والرَّجُل راعٍ فِي أهلِه وهوَ مسؤولٌ عن رعيَّــتِه، والمرأةُ راعيَةٌ فِي بيتِ زَوجِها ومسؤولةٌ عن رعيَّــتِها…”، أي كلُّكُم حافِظٌ لِما يرعاه، مُؤتَمَنٌ على مصلحةِ مَن هوَ فِي عُهدتِه، باذِلٌ فيهِ حقّ العِنايةِ والاهتِمام. وفي المسؤوليّاتِ التّربويَّة، تكونُ الرِّعايةُ على وجهِ الخُصُوص هادِفةً إلى “تبليغِ الشيء إلى كمالِه شيئًا فشيئًا” كما وردَ آنِفًا، أي تهيئة هذا الكائن، الغضّ الَّذي هوَ هِبَةٌ منَ الله تعالى، لِتمكينِه من اكتِسابِ الملِكاتِ الإنسانيَّة الشَّريفَة التي هيَ الصِّفات الرَّاسِخَة في النَّفس ليثبتَ بها على التزامِ الفضيلةِ التي بهَا سوفَ يتحقَّق إنسانًا مُدركًا لمعنى السَّعادة الحقَّة.
حِفظُ الأمانة:
لقد كانَ مِن حِكمةِ الله تعالَى أن جعَلَ الإنسانَ النّاطِقَ الغرضَ منَ الموجُودات، فخَلقَه كامنَ الجَوهر، تامّ القَصد، على أحسن تصوير، وأجوَد تقدِير، وأتمّ تدبِير، كما قال عزَّ مِن قائِل ﴿لقَد خَلقنَا الإنسانَ فِي أحسَنِ تقويم﴾ (التين: 4). ويكفِي أن يتأمَّلَ المرءُ الموحِّدُ في الصُّورة التي تحدِّدُها الآيات الكريمةُ عن كيفيَّةِ خَلق الإنسَان ليُدركَ عظمةَ سرِّ هذِه الهِبَة العظيمَة التي بهَا بقاءُ الكَون ومعناه، ومِنهَا مِن سورة “المؤمِنون” قَوله تعالَى ﴿ثمَّ جعلنَاهُ نُطفةً فِي قَرار مَكِين* ثمَّ خَلقنَا النُّطفةَ عَلَقَةً فخَلَقنَا العلَقَةَ مُضغَةً فخَلقنَا المضغَةَ عِظامًا فكَسَونَا العِظامَ لَحمًا ثمَّ أنشَأناهُ خَلقًا آخَرَ فتَبارَكَ اللهُ أحسَنُ الخالِقِين﴾. لِذلكَ، صحَّ القَولُ أنَّ هذا الكائنَ الحيَّ المولُودَ هوَ وديعَةٌ فِي أيدِي مُنجِبيه وأوليَاء أمره، بل هوَ كمَا قالَ حجَّةُ الإسلام الغَزاليّ: “أمَانَةٌ عندَ والدَيه، وقلبهُ الطَّاهِر جَوهرةٌ نفِيسةٌ ساذَجَةٌ خاليَةٌ عَن كلِّ نَقشٍ وصُورَة، فإن عُوِّدَ الخَيرَ وعُلِّمَهُ نشأَ علَيه وسعِدَ فِي الدُّنيَا والآخِرَة يُشاركُهُ فِي ثَوابِه أبوَاهُ وكُلُّ مُعلِّمٍ لهُ ومُؤَدِّب”. ولا بُدَّ مِن أنَّ هذِه الأمانةَ الغاليَةَ داخِلةٌ فِي جُملَةِ الأماناتِ المقصُودةِ منَ الآيَة الكريمَة ﴿والَّذِينَ هُم لأمَانَاتهِم وعهدِهِم راعُون﴾ (المؤمنون: 8)، أي قائمون علَيها بحُسن الرِّعايَة، وحافِظُون لهَا بالتَّربيَةِ المستَقيمَة.
الحضانة:
تدخلُ كلُّ تلكَ المقتضَيات الأساسيَّة للواجِب التَّربويّ بدءًا، أي فِي المراحِل الأولَى من حَياةِ الإنسان، فِي مفهوم الحضانَة الَّذي باتَ اصطلاحًا شرعيًّا وقانونيًّا. والحضانةُ من المصدَر حضن، يُقالُ حضَنَ الطائرُ بيضَهُ إذا ضمَّهُ إلى نفسِه تحتَ جَناحَيه، وكذلِكَ المرأةُ إذَا حضَنَت ولَدَها. والحضانَةُ هيَ تربيَةُ الطِّفل ورعايةُ شؤونه فِي زمَنٍ معيَّن لاكتِسابِه الحقّ شرعًا.
لقَد لحظَ قانونُ الأحوال الشخصيَّة لطائِفة الموحِّدينَ الدّروز فصلاً ضمَّنهُ كافّة الأحكام القانُونيَّة لمرحلةِ الحضانًة مستهِلاًّ إعطاء الحقّ بها للأمّ كما وردَ فِي المادَّة 54 منه حيث جاء فيها: “الأمُّ أحقّ بحضانَةِ الولَد وتربيَتِه حال قِيام الزَّوجيَّة وبعدَ الفرقةِ إذا اجتمعَت فيها الأهليَّةُ المطلوبة”.
وحدَّدت المادَّة 55 الشّروط التي يجِب توفّرها فِي الحاضِنة، فجاءَ فِيهَا: “يُشترَطُ في الحاضِنة أن تكونَ بالغةً عاقِلة أمينة صحيحَة الجِسم قادرةً على تربيَة الولَد وصِيانتِه…” (يراجَع قانون الأحوال الشخصيّة المواد من 54 إلى 66). ويجب أن تُفهَمَ هذه النّصُوص في أوضاعِها القانونيَّة التي توجِب التَّحديد، إذ أنَّهُ في المستوى الإنسانيّ الشَّامِل، ثمَّة مشارَكةٌ للأبِ جوهريَّة فِي ذلكَ الحقّ، إذ هوَ أحدُ الجَناحَين اللذَيْن تستكمِلُ البيئَةُ التَّربويَّةُ عنَاصِرهَا في بِدايَة الطّريق.
الولايَة:
الوليُّ هوَ القيِّمُ بالأمور، يُجريها على ما فيه الصَّلاح، فهوَ مالكُ الولايَة التي “تُشعِرُ بالتّدبير والقُدرَة والفِعل” (ابن الأثير)، وهيَ فِي نِطاقِ الأسرة للأبِ على سبيلِ التّقديم، كما كانِت الحضانةُ للأم كذلك. وقد خُصِّصَ الفصل الثاني عشر من قانون الأحوال الشخصيّة الآنف الذّكر لمسألة الولايَة، فحدَّد في المادّة 81 صاحبَها بالنصّ التالي: “للأبِ ولو مستوُر الحَال الولاية على أولادِه الصِّغار والكِبار غير المكلّفين ذكورًا وإناثًا فِي النَّفسِ وفِي المال ولو كانَ الصِّغارُ فِي حضَانةِ الأمّ وأقاربِهِم”. وإذا كانتِ الحضانةُ في مبتداهَا ولايةَ التّربيَة والحفظ تتولاَّها الأمُّ أوَّلاً، فإنَّ الولايةَ على النَّفسِ وعلى المالِ يتولاَّها الأبُ كما تقدَّم. وفِي كلِّ حال، يجبُ إدراج النّصّ هنا أيضًا فِي إطاره القانونيّ تحديدًا للمسؤوليَّةِ الشخصيَّة، إذ أنَّهُ، فِي المعنى التربويّ المتكامِل، تقع، بالتكافُل والتّضامُن والشّراكةِ الوجدانيَّة، على عاتِق جَناحَي الأسرة ليُثمرَ “الكنَفُ العائليُّ” ثمرتَه المرجوَّة.