شكيب وهاب “1890 – 1980″، من مواليد بلدة غريفة، قضاء الشوف، هو واحد من رجالات يقل نظيرهم، خرج من صفوف الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الاطرش في مواجهة الاحتلال الفرنسي، وكان على رأس الفرقة المجاهدة التي رفعت الراية العربية في دمشق قبل دخول الملك فيصل ابان الثورة العربية بقيادة الشريف حسين في العام 1918. كانت احلامه تتخطى حدود الاقاليم الضيقة جغرافية كانت ام طائفية تفرق بين ابناء الشعب الواحد، رغم ان الاحتلال كان في كل معركة يبث الفتنة ليضمن الانتصار، وكان شكيب وهاب من بين قلة يعرف ان للسلاح وجهة واحدة، مهما علت اصوات المتآمرين. وتميز هذا الرجل بتواضع كبير فرفض تدوين مذكراته حتى ان الاديب سعيد تقي الدين الحّ عليه اكثر من مرة ورفض، باستثناء محاولة واحدة كانت بمبادرة من ابنه سلطان، بحيث دُونت سيرته بقلم كل من عارف حديفة وسيف الدين القنطار.
سيرة شيّقة
ان قراءة سيرة هذا المجاهد فيها الكثير من التشويق لما مرّ به من مغامرات وصعوبات ومواجهات، فهو الذي ما انتصر بمعركة الا ليصدر بحقه حكم بالاعدام والنفي، والاغرب ان العفو كان يشمل الجميع الا شكيب وهاب، الامر الذي اضطره ان يبقى في عمان والمملكة العربية السعودية اكثر من عشر سنوات حتى العام 1939 فيما تمكن كل المجاهدين من العودة الى قراهم، وهذا يعود الى الدور الكبير والخطير الذي كان يقوم به هذا الرجل في كل المحطات في وجه التركي والفرنسي والاسرائيلي. فعاش شكيب في الجبل أحداث الحرب العالمية الأولى، وشارك في تحرير العقبة وعمان وقلعة بصرى وقلعة صلخد من الاحتلال العثماني، وبرزت في تلك الفترة ميوله العسكرية، ومواهبه القتالية، وأفكاره وخططه الحربية. فتقرّب من سلطان باشا الأطرش، وأخذ يرافقه في تنقلاته. وعندما هبّت الثورة السورية الكبرى، التحق بالقيادة الوطنية تحت إمرة سلطان الاطرش. وتنقّل القائد شكيب وهاب مع ضباط جنود الثورة من موقع إلى آخر، مبديا بطولة وشجاعة فائقتيْن. فشارك بصورة خاصة في المعارك التي وقعت في وادي التيم بين حاصبيا وراشيا، وقد قاتل في معارك كثيرة وانتصر فيها جميعاً. وقد أبلى بلاء حسنا في معركة راشيا، فقام مع رفاقه بالاستيلاء على قلعة راشيا الكبرى وقتل حاميتها. وكانت آخر معركة شارك فيها في الثورة، معركة الرشيدية إلى جانب سلطان باشا والأمير عادل ارسلان وانتهت بانتصارهم. واضطر أن يترك سورية بعد الثورة، لكنه عاد الى العمل الوطني في العام 1945 اذ كان احد قادة انتفاضة 29 ايار التي رفضت الدعوات الفرنسية بتجزيء سورية الى دويلات واحدها جبل الدروز، ففي هذه الانتفاضة حرر الثوار كل المراكز الحكومية واحتلت الثكنات رافعة الرايات العربية، معلنة الغاء الاستقلال الاداري للجبل وانضمامه الى الارض الام.
النصر … بالكلام
“ان النصر في فلسطين لا يكون بالكلام، بل هو يحتاج الى عتاد وسلاح وتنظيم فعلي وتعاون وعلى العرب ان يتداركوا ذلك”، وكأنها بحكمة كل زمان فشكيب وهاب عرف منذ بداية المعركة بان القوى غير متكافئة، وقارن في تصريح الى جريدة الجبل في 26 نيسان 1948 اي قبل اسابيع من اعلان قيام دولة اسرائيل، بين سلاح اليهود الحديث ومراكزهم المحصنة، وسلاح العرب القديم وقراهم المكشوفة، وبين التنظيم العسكري الذي يبدو في صفوف اليهود، والفوضى في الصفوف العربية عامة، معتبرا انه لو ان هنالك تكافؤا بالسلاح لما ثبت اليهود يوما واحدا، فالمقاتل العربي يستطيع ان يقابل عددا من المقاتلين وليس مقاتلا واحدا اذا ما امتلك السلاح.
… لنجدة فلسطين
فمع اطلالة العام 1947 بلغ ارهاب العصابات اليهودية ضد عرب فلسطين ذروته، بحيث مارست اضطهادا منظما هدف الى تهجير الناس من منازلهم وطردهم من ارضهم، الامر الذي ترك اثرا كبيرا في الشارع العربي. وورد في كتاب “شكيب وهاب – سيرة وكفاح” للكاتبين عارف حديفة وسيف الدين القنطار، انه وفي 6 تشرين الاول اجتمع مجلس الجامعة العربية في عاليه، وانتهى الاجتماع الى ضرورة تكوين قوة من مختلف البلدان العربية، على ان يتم تدريبها وتسليحها واعدادها باشراف الجامعة العربية. واقترح لقيادة هذه القوة التي عرفت بجيش الانقاذ المجاهد فوزي القاوقجي، الذي توجه في 18 كانون الاول العام 1947 الى جبل العرب في سورية لدعوة ابنائه الى التطوع في جيشه لنجدة فلسطين، وكان في استقباله عارف النكدي محافظ سويداء وامين ابو عساف قائد منطقة جبل العرب، وبعد زيارة قائد الثورة السورية الكبرى سلطان باشا الاطرش، تم الاتفاق على تشكيل فوج مقاتل من ابناء الجبل بقيادة المجاهد اللبناني شكيب وهاب. وفي 29 اذار 1948 ضجت السويداء باهازيج النصر مودّعة المجاهدين، وفي الميدان الكبير وسط المدينة وقف عارف النكدي وتوجه الى المتطوعين “اود ان اضم كل واحد منكم الى صدري واقبله قبلة التقدير لولا ضيق الوقت، لذلك اكتفي بان اطبع القبلة على جبين قائدكم شكيب وهاب”.
نشوة النصر
وسار القائد في المقدمة وتتالت خلفه سرايا الفوج، الذي كان لوصوله الى فلسطين اثرا كبيرا في نفوس المجاهدين العرب، وبالفعل خاض معارك شرسة ضد عصابات “الهاغانا” وانتصر في معظم مواجهاته معها. الا ان العامل الحاسم في الصمود كانت البطولة التي خاضتها سرايا القتال، في وقت ان المعركة الحديثة لم تكن وقفا على البطولة وحدها. واما الخطأ الكبير فكان حل جيش الانقاض يوم اعلنت الجيوش العربية الحرب في 15 ايار 1948 بعد اعلان قيام اسرائيل، الامر الذي فرض على شكيب وهاب، كما كل افواج جيش الانقاذ، الانسحاب من خط المواجهة الى خطوط الاحتياط الخلفية. فنجحت الجيوش العربية بتحقيق تقدم كبير ووصلت الى القدس الا انه وفي نشوة النصرفي 11 حزيران تناقلت الانباء خبر موافقة العرب على قبول الهدنة مع اسرائيل تلبية للضغط الاميركي والبريطاني، فكانت فرصة اسرائيل الذهبية لتنظيم صفوفها والحاق الهزيمة بالعرب. وورد في “سيرة كفاح” ان قيادة جيش الانقاذ اتخذت قرارا بحل فوج الجبل بناء على اقتراح شكيب وهاب بعد الحالة العامة التي اعقبت قبول العرب الهدنة والى الهزة العميقة التي اصابت اولئك الذين امتشقوا السلاح طواعية وكانوا على يقين انهم قادرون على حماية فلسطين رغم قلة ما امتلكوا من السلاح.
وداعا للسلاح
بعد استقلال لبنان وسورية وضياع فلسطين واعلان دولة اسرائيل فيما باتت احلام الوحدة بفعل المستحيل، اعتزل شكيب وهاب النشاطات السياسية والعسكرية، ومكث في قريته غريفة الشوف، يساعد الناس ويحل مشاكلهم في القرى، وانتقل إلى رحمته تعالى العام 1980، قائم بكل واجباته الإنسانية والاجتماعية والوطنية. تاركا سيرة تنضح بالبطولة والشهامة العربية الاصيلة.
أشعل سيكارة من جمر منزله
بعدما ابرزت فرنسا نواياها باستعمار لبنان وسورية والتنكر لوعودها لثورة الشريف حسين، تشكلت العديد من الحركات الشعبية التي تالفت من الوطنيين والمجاهدين الذين شاركوا في الثورة ومنهم شكيب وهاب، والتي راحت تدعو لمواجهة الاحتلال وللوحدة العربية الامر الذي اثار عليهم سخط الفرنسيين، فاصدروا بحقه حكم الاعدام بعدما هوجم الاميرال مورني قائد الاسطول وجورج بيكو في اب 1919 في بعقلين، واحرقوا منزله في غريفة، ويقول عارف وهاب :”حين علم ان السلطة الفرنسية تنوي احراق منزله، دخل غريفة متخفيا، ولما اشتعلت التار في منزله، اقترب من الجنود، والجنود مستغربون سلوك ذلك الرجل المجهول، اشعل سيكارة من جمر الحريق، فظن الجنود ذلك شماتة منه بصاحب المنزل. فسألوه ان كان ما ظنوه صحيحا الا انه لم يجب، بل بقي صامتا محدقا في المنزل الذي كانت النيران تلتهمه. ثم مضى ولم يدرك الجنود بالطبع ما تركه ذلك المشهد من اثر في نفس ذلك الرجل الغريب”.
سلام الراسي يتذكر
ابان الثورة السورية الكبرى العام 1925 يقول الكاتب سلام الراسي: “دخلت قريتي، ابل السقي، سلميا حملة من الثوار بقيادة حمزة درويش. تفرق رجالها ضيوفا على بيوت القرية، وكان نصيب عمي ابراهيم الراسي ثلاثة من قادة الحملة هم فؤاد سليم، نزيه المؤيد العظم، اللذان كانا اعزلين من السلاح، وشكيب وهاب الذي ترك بندقيته قرب الباب بشكل اغرى احد الاولاد بحملها بكل عفوية، فانتزع ابراهيم البندقية من الولد، وعنفه بقسوة، فانكسر خاطر الولد، وانزوى جانبا وراح يبكي، فما كان من شكيب وهاب الا ان استرضى الولد، وسلمه البندقية وطيب خاطره واجلسه قربه. ولما زار الراسي شكيب وهاب بعد 35 سنة ساله ان كان لا يزال يذكر تلك الحادثة، فاجاب “نعم اذكرها” فقال له : “انا هو ذلك الولد الذي طيبت خاطره، ورفعت شانه، وها انا اجيء لاشكرك”.
المصدر: جريدة “صدى البلد”