كتب أستاذ التاريخ العثماني في الجامعة الأميركية في بيروت عبدالرحيم أبو حسين في جريدة “الحياة” في كانون الاول 2017، من ضمن سلسلة عن علاقة الدروز بالسلطنة العثمانية:
يقول بولس نجيم إن لبنان الكبير هو ببساطة عودة إلى لبنان فخرالدين المعني:
أسّس فخرالدين دولة قوية وجيدة التنظيم، مركزها لبنان، لم تكن ولاية تركية، وإنما دولة لها حياتها الخاصة، تشبه الدول المتحضرة في أوروبا الغربية أكثر من ولاية من ولايات الباب العالي. وقد نعمت تحت قيادة حاكم مطلق متنور بعظمة وبهاء النهضة الإيطالية.
وعن فخرالدين هذا يقول نجيم في موضع آخر:
«لا يختلف اثنان في عبقريته. وقد ترك آثاراً خالدة. وهي أولاً وقبل أي أمر آخر، تتجلى في البحبوحة الاقتصادية في بيروت ولبنان، وهي من صنع يديه وتضع بيروت ولبنان اليوم في طليعة بلدان المشرق. ثانياً، صنع وحدة لبنان السياسية، بل صنع دولة لبنان، التي تستطيع أن تلعب دوراً كبيراً في بلاد الشام، وفي أنحاء الشرق كافة. كانت دولة مزدهرة جذبت إليه الانتباه والنيات الحسنة حتى في أوروبا. لا شك في أنه فشل، لكنه بيّن الطريق للبنانيين، الدروز منهم والموارنة، الذين، في وحدتهم، أمّنوا الدفاع عن الاستقلال. لقد وطد هذه الوحدة بتقاليده المجيدة في الحكم. لقد أيقظ في كل سكان الجبل الوعي بوحدتهم الوطنية. وهو الذي أحلّهم في مكان الصدارة بين كل سكان بلاد الشام».
بطبيعة الحال، لم يكن هنالك ما هو غير مألوف في أن يلتمس القوميون اللبنانيون سابقة تاريخية للبنانهم المرتجى، أو أن يتطلعوا خلفهم إلى زمن جميل، حقيقي أو مزعوم. فهذا شأن معظم الحركات القومية حيث تسمح لنفسها بهذا النوع من التمارين الفكرية. إلا أن الأمر العجيب في هذا العصر الذهبي المتخيل مارونياً هو أن بطل ذلك العصر كان درزياً. وقد حدث هذا بعد عقود قليلة فقط من الحرب الأهلية منتصف القرن التاسع عشر بين الموارنة والدروز، حيث فقد آلاف الموارنة والمسيحيون الآخرون حياتهم، واضطر عشرات الآلاف منهم إلى النزوح عن قرى آبائهم وأجدادهم. ولكن هل يمكن أن تكون أسطورة لبنان فخرالدين و «دولة لبنان» ذات منشأ أبعد زمناً من منتصف القرن التاسع عشر، أو بدايات القرن العشرين؟
حين نقرأ المصادر اللبنانية المارونية التي تعود إلى القرن السابع عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر (وهي- تقريباً- كل المصادر المحلية التي بين أيدينا) نجد الدويهي يورد ما اقتبسه أدناه، وقد استعاد حيدر الشهابي ما أورده الدويهي حرفياً في القرن التاسع عشر:
يقول الدويهي عن فخرالدين ما يلي:
«وفي دولة الأمير فخرالدين، ارتفع رأس النصارى. عمّروا الكنائس، وركبوا الخيول بسروج ولفوا شاشات وكرور لبسوا طوامين وزنانير مسقطة ولبسوا القفاص والبندق المجوهرة، وقدموا المرسلين من بلاد الفرنج وأخذوا السكنة في جبل لبنان لكون غالب عسكره كانوا نصارى وكواخيه وخدامه موارنة».
يجدر هنا إعادة تأكيد أن الموارنة كانوا أنصاراً شديدي الإخلاص لآل معن وخلفائهم آل شهاب. وقد كانت لكلتا السلالتين الحاكمتين صلات وثيقة مع القوى الأوروبية الكاثوليكية والكنيسة الكاثوليكية، حيث كانت هذه تهتم شديد الاهتمام بأمر الموارنة. كما أن كلتي السلالتين الحاكمتين، آل معن وآل شهاب، أظهرتا العطف والرعاية الفائقة تجاههم. أضف إلى ذلك، أن الموارنة كانوا، في واقع الأمر، مكلفين من قبل البابوية منذ بداية القرن السابع عشر، بمساندة المعنيين والتوجه إليهم طلباً للحماية. ولذا، فإن الدويهي لا يجد أي غضاضة لدى حديثه عن السلطة المحلية لفخرالدين في أن يصفها بـ «الدولة».
ربما لا يجدر بنا القفز إلى استنتاجات بهذه الأهمية بناء على إشارة مفردة، قد تكون وردت عابرةً من دون اكتراث، لدولة فخرالدين. لكن الدويهي نفسه يقول لاحقاً، في «تاريخ الأزمنة»، لدى ذكر وفاة المعني الأخير: «وفي الخامس عشر من أيلول (1697م) كانت وفاة الأمير أحمد بن معن، وفيه انقرضت دولة المعنية العادلية»، ويستعيد الشهابي في القرن التاسع عشر ما أورده الدويهي بصورة حرفية في القرن التاسع عشر.
أصبح الموارنة الذين كانوا يتمتعون برعاية الإمارة المعنية سادة الإمارة الشهابية التي خلفتها. وهذا التطور لا يعود فقط إلى أن الأمراء الشهابيين تنصّروا في منتصف القرن الثامن عشر ودخلوا الكنيسة المارونية، لكن لأن الموارنة في ذلك الوقت كانت قد أصبحت لهم اليد العليا في إدارة واقتصاد الإمارة، هذا إضافة إلى تفوقهم السكاني. لذلك كان من الطبيعي، كما يقول الصليبي، أن يكون «بشير الثاني أميراً حاكماً وسليل أسرة من الأمراء الحكام» في نظرهم. بينما نظر الدروز إلى الشخص نفسه على أنه «مجرد موظف مالي في الدولة العثمانية الذي كان التزامه بجمع الضرائب يخضع للتجديد سنوياً». إن حقيقية الشرعية التاريخية للإمارة الشهابية مستمدة من الشرعية المعنية المفترضة قبلها.
كان الدويهي، بالطبع، بريئاً من المشروع القومي الذي تقدم به نجيم. وكانت دولته المعنية أيضاً كياناً متواضعاً اذا ما قورن بلبنان الكبير الذي اعتقد نجيم بوجوده تاريخياً. لكن هذا الكيان، على تواضعه، أتاح للموارنة، كمسيحيين ليس لهم وضع الملة القائمة بذاتها، أفضل ما كان يمكن الحصول عليه في ظل الدولة العثمانية. وكان الدويهي، بصفته البطريركية، معنياً بأمن طائفته الدينية الذي اعتقد أنه سيكون مضموناً إذا واصل الشهابيون سياسة المعنيين في معاملة الموارنة. عاش الدويهي السنوات السبع الأولى من الإمارة الشهابية، وكان من المهم بالنسبة إليه نقل هذا الفهم للشرعية العثمانية والقبول به، وهو ما استطاع، عبر استعماله للتاريخ، إضفاءه على الإمارة المعنية والشهابية، وإلى غير الموارنة، وفي المقام الأول إلى الدروز والمسلمين في المناطق المجاورة.
إذا ما حكمنا على الأمر وفق الرواية القومية اللبنانية المتداولة في الوقت الحاضر، نجد أن الدويهي نجح نجاحاً باهراً بالفعل. فبغض النظر عن كتاب الصليبي الأخير حول لبنان، وما سيق أعلاه من وجهة نظر بديلة عن آل معن، يبقى ما قال به الدويهي واحداً من الأفكار الأساسية في الأعمال الأكاديمية، كما في الكتب المدرسية.