بسبب عنوانها المباشر، توهّم العديد من القرّاء أن رواية الأردني مجدي دعيبس “قلعة الدروز” (المؤسّسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2021) تقوم على سبر أغوار عقيدة الدروز الموحّدين، وتلبي فضول كثيرين بشأن الغموض الذي يكتنفها، وقد ورد في النص الروائي بعض الإشارات المتعلقة بذلك بشكل عابر، مثل شيوخ العقل، والحدود الخمسة، وغيرها من عادات ومفاهيم الكرم والشجاعة والمروءة وإغاثة الملهوف، وغيرها من مفردات المنظومة الأخلاقية الصارمة التي طالما ميّزت أبناء المجتمع الدرزي. ولكن الروائي ذهب في منحى مغاير، كاشفاً عن موهبة فذّة في مقاربة التاريخ معرفياً وإبداعياً وجمالياً، وفي بث الروح في المكان عنصراً أساسياً في النص.
الرواية جزء ثانٍ من ثلاثية، فازت الأولى “الوزر المالح” بجائزة كتارا للرواية العربية في دورتها الخامسة. ويواصل دعيبس في “قلعة الدروز” تجوالاً في تاريخ بلاد الشام وحكاية الشتات الدرزي للفارّين من جبل العرب إلى واحة الأزرق في شمال شرق الأردن، ودورهم في إحياء المنطقة، واستثمار مواردها، وتأسيس مدينة الأزرق بدايات القرن العشرين عند خروج العثمانيين من سورية، وقيام الدولة العربية بقيادة الملك فيصل، قبل أن يحل الانتداب الفرنسي الذي قتل أبناء المنطقة وشرّدهم، ما كان سبباً لانطلاق الثورة السورية الكبرى، بقيادة سلطان باشا الأطرش في جبل العرب، معتمداً على الوثيقة التاريخية، مثل مذكّرات عبد الرحمن الشهبندر، أحد رموز تلك المرحلة، والعقل المخطّط للثورة السورية الكبرى، وكتاب فريد فيّاض “سلطان باشا الأطرش تاريخ وطن”.
رصد دعيبس ملامح تلك المرحلة المفصلية من تاريخ بلاد الشام، مستعرضاً روح التمرّد والمقاومة، وكذلك الظروف المعيشية القاسية، واختلال ميزان القوى لصالح المحتل المدجّج بأحدث الأسلحة في مواجهة أسلحة الثوار البدائية ومواردهم الضئيلة، ومن خلال حكاية عائلة عجاج أبو عطا التي كانت تقيم في قرية أمتان من قرى الجبل في الجنوب السوري. يقتل نايف الابن جندياً فرنسياً خطأ، فتصبح العائلة القروية البسيطة بين لحظة وضحاها مطاردة من دولة عظمى غاشمة، ما يضطرّها للهرب إلى واحة الأزرق، الملاذ الآمن البعيد، وقد سبقتهم إلى هناك بعض عائلات الجبل، لتصبح وطنهم الجديد، وليستبدلوا مهنة الزراعة التي لم يعرفوا غيرها بمهنة استخراج الملح وبيعه إلى القرى المجاورة. يبرز نايف بطلاً حرّاً حين يُقبض عليه، ويقتاده الجنود الفرنسيون مكبّلاً إلى السجن، قبل أن يهرب من سجّانيه، ويطارد أحد الخونة، فيطعنه ثأراً لرفاقه الأحرار ممن اقتيدوا إلى ساحة الإعدام، بسبب وشاية الخائن.
ومن خلال حكاية العائلة، يأخذنا الكاتب في رحلة شائقة ممتعة في الزمان والمكان، من دون أن يلعب دور السارد العليم، بل يتكئ على أصوات شخوص الرواية، ليقدم لنا نصّاً روائياً متكاملاً، يصبح الحدث التاريخي فيه خلفية لحراك الشخصيات في فضاءٍ ممسوك ببراعة، قادر على توريط القارئ في الأحداث المتسارعة التي لا تخلو من عناصر التشويق والإثارة، ما يجعل العمل مؤهّلاً بسهولة للتحول إلى عمل درامي تلفزيوني أو سينمائي مكتمل العناصر، ما يذكّر بمشروع الروائي الأردني الراحل زياد قاسم في رائعته “أبناء القلعة”.
تنقّل الكاتب بكل رشاقة بين الأزمنة حتى وصل بنا إلى العهد الروماني، حين شيد المهندس أرنسو قلعة الأزرق بأيدي العبيد على أنقاض القلعة التي بناها الأنباط، ذات زمن سحيق مسكون بالشغف، لاجتراح حصن بمثابة تحفة معمارية، يحمي الإمبراطورية الرومانية في صحراء شاسعة ممتدة، لتصمد القلعة، حتى لحظتنا الراهنة، شاهداً ماثلاً على عظمة المخيلة البشرية، وقدرتها على اجتراح الجمال.
مجدي دعيبس روائي متمكّن من أدواته، من حيث اللغة البسيطة العميقة المكثّفة، والقدرة على السرد المحكم، و”قلعة الدروز” بصفحاتها التي لا تتجاوز المئتين إنجاز مدهش، وإضافة مهمة إلى الرواية العربية، وعمل يستحق الالتفات إليه.
المصدر: بسمة النسور – العربي الجديد