خاص كيان 24
يُسجَّل لشيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الراحل محمد أبو شقرا كبرياء المواقف الشجاعة وسمو القرارات الحكيمة والاستثنائية في محطات عدة، وفي لحظات حاسمة ومصيرية في تاريخ لبنان وفي تاريخ طائفة الموحدين الدروز.
فبحكمته وحلمه وإدراكه العميق استطاع أن يقيم جسر الوحدة على المستوى الإسلامي بشكل عام، وعلى مستوى وحدة طائفته الدرزية بشكل خاص، حيث سعى في استحقاقات عدة ليكون هذا الجسر من الحكمة والدراية ورحابة الصدر وسيلة عبور بين جميع الطوائف ومكونات الوطن. إذ لم تكن مشاركته في معظم القمم الروحية التي عقدت في لبنان مجرد مشاركة عادية لرئيس طائفة، بل كانت مشاركته وازنة متوازنة تمتلك رؤية وبرنامج واقتراحات وحلول، وكان حضوره مؤثرا وفاعلا ومغيرا لمسارات وتوصيات صبت في المصلحة الوطنية العليا، ووطدت العلاقات ورسخها بين مختلف الطوائف.
تأثير بارز
ويضاف إلى ذلك، كان لسماحته التأثير البارز في القضايا المحيطة بلبنان والمؤثرة به، فوقف بحزم وثبات وقناعة راسخة الى جانب قضية الشعب الفلسطيني وحقوقه المغتصبة من الكيان الاسرائيلي وحقه الطبيعي بتحرير ارضه واستعادتها، كما تبنى مواقف الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، ووقف إلى جانب الحركات الوطنية والشعبية وحق الشعوب العربية في تقرير مصيرها، مؤيدا المواقف القومية والعربية في سوريا والمنطقة العربية، رافضا ضم هضبة الجولان للكيان الاسرائيلي المغتصب.
في دمشق
ولد الشيخ محمد أبو شقرا في بلدة عماطور الشوفية وهي احدى قرى محافظة جبل لبنان في 2 آذار من العام 1910. تلقى علومه الابتدائية فيها. وفي العام 1923، وكان أتم الثالثة عشرة من عمره، التحق بوالده الشيخ داود أبو شقرا الذي كان يتعاطى التجارة في مدينة دمشق وتابع تحصيله العلمي في مدارسها. ثم التحق بالثورة السورية الكبرى التي قادها سلطان باشا الأطرش عام 1925 ضد الفرنسيين، وكان قد بلغ السادسة عشرة من عمره، فدخل فيها متحليا بمناقبية استثنائية مسجلا اروع البطولات الى جانب رفاقه المجاهدين.
أتت النيران على المستودعات وعلى المحل التجاري الذي يملكه والده في مدينة دمشق في 17 تشرين الثاني 1925، حين هاجمها الثوار وكان المتطوعون في الجيش الفرنسي قد سرقوا منزله الذي يملكه في جرمانا في جبل الدروز، بحيث أصبح والده في حالة مادية صعبة ويائسة.
استوطن الشيخ أبو محمد داود بلدة جرمانا بضع سنين، ثم ارتحل إلى بلدة حينه عام 1928، التابعة لقضاء قطنا، وادي العجم، بجبل الدروز، وتعاطى الأعمال الزراعية والحراثة، أما ولده محمد فقد عمل في التجارة وشيّد بيتاً في حينه. وكان قد بلغ العشرين من العمر عندما تزوج ابنة عمه وأنجب منها ابنتين وأربعة أبناء هم: نبيه (مهندس) ونزيه (مهاجر) وسليمان (محام وكاتب عدل) ومفيد (رئيس دائرة متقاعد).
بصمات خالدة
وللشيخ محمد أبو شقرا بصمات خالدة وصفحات مضيئة على مستوى الانجازات الكبيرة في بناء المؤسسات الدرزية وفي قيام الاجراءات التنظيمية والاصلاحية التي اطلقت دينامية جديدة داخل الطائفة وعلى أكثر من صعيد.
فقد أنشأ دار الطائفة الدرزية في فردان في بيروت لتكون مقر مشيخة العقل ومؤسسات الطائفة ومكانا للاجتماعات واللقاءات الروحية والمؤتمرات المتعددة، والمناسبات. إذ بذل جهودا كبيرة لجمع التبرعات والتقديمات والهبات في لبنان وفي الاغتراب لتشييد هذا الصرح الكبير، وتوفير مقومات مساعدة المحتاجين وتقديم الخدمات الاجتماعية، فأنشأ المجلس المذهبي لطائفة الموحدسن الدروز متوليا رئاسته، كما أنشا مديرية عامة للأوقاف الدرزية كما هو سائد عند الطوائف الأخرى، وفي العام 1968 أنشأ المحكمة الدرزية العليا التي تولى رئاستها الراحل الشيخ حليم تقي الدين، حيث كان لتلك القرارات الاثر البالغ في تنظيم شؤون الطائفة وفي تحصيل حقوقها الوطنية وفي انخراطها بمؤسسات الدولة.
ومن بصمات شيخ العقل بناء “المعروفية” في نطاق بلدة عين عنوب لتكون مقرا لمهاجري جبل الدروز في سوريا، اضافة الى تأمين مساكن لعائلات من الطائفة الدرزية في وطى المصيطبة بعد ازمة مع الحكومة وبعض الحكام آنذاك.
مستشفى عين وزين
وبتوقيعه أضاف الشيخ محمد أبو شقرا بصمة انمائية خدماتية باهرة تجلت بإنشاء المؤسسة الصحية في عين وزين قضاء الشوف في العام 1983، وكان قد أشرف على تنظيم حملة تبرعات لدعم هذه المؤسسة الصحية في الشوف، وبذل جهودا استثنائية لتأمين جهاز طبي واستشفائي وتمريضي فيه، إضافة إلى إنشاء مبان حديثة حول هذا الصرح الصحي، كما قام بترميم وتجديد مبان في المقامات الدينية، ومنها مقام النبي أيوب والمقام الشريف، وأعاد ترميم وبناء مقام الأمير السيد عبد الله التنوخي في عبيه، حيث كانت قد تصدعت بعض اقسامه وتهدمت أجزاء منه اثناء الحرب اللبنانية.
وعلى المستوى الداخلي كان لسماحته دينامية فاعلة لرأب الصدع بين أبناء طائفته وحفظ وحدتهم ولحمتهم وتماسكهم وتضامنهم ضد أي خطر يهدد وجودهم ويحاول تمزيق تلك الوحدة، فأيد مواقف رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي الزعيم وليد جنبلاط وكان الى جانبه في النضال خلال حرب الجبل.
وبارك مواقف الزعيم وليد جنبلاط، وكان بجانبه في نضاله خلال حرب الجبل. واتسمت مواقفه بدعم ومساندة المقاومة الوطنية اللبنانية من اجل تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي. كما نبذ العنف داعيا الى استخدام السلاح في موقعه الطبيعي ضد الاحتلال، ولطالما دعا الى اعتماد الحوار للوصول الى قواسم مشتركة بين المكونات الداخلية، والايمان بالدولة العادلة القوية التي يجب ان تقوم على المساواة والقيم والعدالة الاجتماعية والتحلي بالاخلاق والفضيلة .
ثقافة موسوعية
وعلى الرغم من انه لم يكمل تعليمه الجامعي إلا أن سماحته حصل ثقافة موسوعية في اللغة والادب والفقه وعلوم القرآن والدين والفنون العلوم المتعددة، فكان يكثر من القراءة والمثاقفة فاتقن فن الكتابة في الادب والعلوم والدين، وألف كتابا بعنوان “لباب العلوم” صدر عن مشيخة العقل في بيروت في العام 1980.
الوفاة
صبيحة الرابع والعشرين من تشرين الأول من العام 1991، طوى الموت صفحة شيخ جليل كتب في تاريخ لبنان سطورا من العزة والكرامة والمواقف الشجاعة والحكيمة، فكان بكل ما للكلمة من معنى مرجعية وطنية ودرزية، وشيخ عقل من القامات الكبيرة والمؤثرة في تاريخ لبنان الحديث.
ودعته بلدته بعذران وطائفة الموحدين الدروز وودعه لبنان بمأتم شعبي ورسمي مهيب شارك فيه ألاف المشيعين من كل لبنان ومن المشايخ والمرجعيات الروحية والدينية، ومن قيادات سياسية وحزبية وقامات وطنية ونقابية، كما اصدرت مرجعيات الطوائف الاسلامية الثلاث خبر نعي مشترك يوم وفاته.