عًقد اجتماع للجمعية الدرزية الأميركية في دورينغو – كولورادو في العام 1987. وقد ألقى يومها الوزير عباس الحلبي كلمة بإسم المكتب الدائم للمؤسسات الدرزية. وجاء فيها:
حضرة رئيس الجمعية الدرزية الأميركية،
حضرات مدراء فروع وأعضاء الجمعية،
أيها الحفل الكريم
بكل فخر واعتزاز أقفُ في هذا الحشد الجامع لأتحدث باسم المكتب الدائم للمؤسسات الدرزية في لبنان.
تحية لكم أيها الأفاضل من الإخوة والأخوات، وتحبَّة لجمعيتكم الزاهرة، وتحيَّةً لمؤتمركم الذي أصبح محجّاً للموحدين الدروز يقصدونه من مختلف بقاع الأرض، بفضل المكانة التي حققتها جمعيَّتكم في خدمة أبناء الجالية في الولايات المتحدة، وتعاونها الطيّب لخدمة الأغراض العامة للموحدين الدروز في لبنان وخارجه، وبخاصة خلال سنوات المحنة الرهيبة التي بلغت أوجها في الأعوام 1982 و1983 و1984. وكنا نحن في بيروت على اتصال شبه يومي بمسؤولي الجمعية، منسقين معهم ومقدرين لنشاطاتهم ومعجبين بحيويتهم. وقد استمات تلك العلاقات المميّزة على مدى السنين التالية، ولا بُدَّ من استمرارها مستقبلاً.
إخواني، لقد شاء الله، مولانا الذي لا مولى لنا سواه، أن نحضر هذا المؤتمر المنعقد في مدينة دورينغو بولاية كولورادو، في هذا البلد العظيم المضياف الأخ عفيف خضر والأخ زياد حمادة عن المكتب الدائم، والأخ عصام مكارم عن مؤسسة الرعاية، والأخ جهاد الزهيري عن معالي الزعيم وليد جنبلاط. وأنا، وإن كنتُ أحضر هذا الجمع للمرّة الأولى، فإنّي لستُ غريباً عن هذا النشاط، إذ إني مع رفاقي في المجلس الدرزي للبحوث والإنماء كان لنا شرف التعاون مع الجمعية الدرزية الأميركية ومثيلاتها في العالم بالدعوة إلى المؤتمر الدرزي العالمي الذي كان مقرراً عام 1981 وبعد نكبة الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، درج المكتب الدائم للمؤسسات الدرزيَّة على إيفاد ممثلين عنه، سنوياً، لحضور هذا المؤتمر. ويشرفني أن أكون اليوم في عدادكم،وأن أُكلف بالتحدث باسمهم.
لطالما كانت فكرة المؤتمرات عزيزة على قلوبنا لأنها تمثل إطاراً للاجتماع والحوار وبحث المشاكل والوصول إلى النتائج العمليَّة، هذا إلى جانب البديهيات الأساسية مثل حفظ العلاقات بين الإخوان، واستمرار الصداقة والألفة، ونقلها إلى الأجيال الجديدة.
وإذا كان مؤتمركم السنوي يشكل نموذجاً يحتذى به، فإنَّ توقنا كان دائما لتطوير الفكر المؤسسي على قواعد سليمة بحيث تتجمع جميع القوى الحية للموحدين الدروز ضمن إطار مؤتمر عالمي دائم، له أمانة عامة دائمة، وضمنه هيكلية تنظيمية تتيح للمؤسسات والجمعيات والروابط والقوى الحية التعبير عما يجول في خاطرها، سعياً لجمع الكلمة والموقف في العالم أجمع. نحن أبناء مذهب التوحيد أعطينا منذ ألف عام، أمانة في أعناقنا لحفظ المبادئ الدينيَّة والخلقية والاجتماعية التي نادى بها أجدادنا، وأوصينا بالشورى والعمل المشترك.
وإذا كانت فكرة المؤتمر قد عطلتها بعض الظروف الخاصة غير الخفية على الكثيرين منكم في حينه، بالرغم من نجاح المؤتمر التحضيري الأول في شباط 1980، فإن سعينا الدائم ما زال يتّجه لتأسيس هذه الفكرة على أسس لا تنجح الظروف المعطلة في تقويضها.
إن معالجة قضايا الانتشار الدرزي في مختلف أصقاع الأرض ليست قضية سياسية، بل قضيَّةً حضارية واجتماعيَّة. فالموحدون الدروز لا سياسة لهم إلا الدفاع عن الحق العربي في كل مجال، وحمل مشاعله ضمن مؤتمرات وجمعيات، أو على الأصعدة الفردية كما يحفل تاريخنا.
ترانا اليوم نواجه مشكلة تطرحها ظروف الحياة المستجدة، فنحن لم نعد عشيرة تحمي الثعور الإسلامية من غزوات الإفرنج، بل أمسينا فئة منتشرة في العالم يتوجب على أبنائها حفظ تراثهم القومي والحضاري بشكل لا يتعارض مع أنظمة البلاد التي حلوا فيها. ولم نعد فئةً منغلقة في معتقداتها على الرغم من سمو تلك المعتقدات التوحيديَّة، بل أضحينا جماعةً عليها أن تقاوم تحديات العصر وتنقل أفكارها إلى العالم على ضوء الفكر الحديث. ولا يمكن أن يتوفّر النجاح لهذا العمل إلا ضمن العمل المؤسسي الجماعي والحوار الديمقراطي الواعي والعمل المنظم.
إن استمرار وجود الموحدين الدروز في الشرق، وتمكنهم على الرغم من قلة عددهم من تحقيق الإنجازات العسكرية والحضارية الرائعة على مدى قرون طويلة، حصل بفضل اعتماد العقل والمنطق والشورى وروحية التضحية الخارقة التي لا يمكن أن تصدر عن جهل أو تردُّد، بل عن إيمان بحق مقرر، وتمسك بعروبة أصيلة نالت دائماً إعجاب المؤرخين والشعراء. ولم تكن انتصارات الموحدين الدروز العسكريَّة في معارك السنوات الأخيرة إلا مثالاً على التراص الاجتماعي من القمة إلى القاعدة.
معشر الإخوان، وكما سبق أن توقعنا في كلماتِ أُلقي بعضها في مؤتمراتكم السابقة، فإن الموحدين الدروز وظفوا انتصاراتهم للمصلحة القومية واللبنانية، ساعين إلى تطوير النظام اللبناني وإخراجه من حال التسلط اللاديمقراطي إلى حال أكثر تقدميَّةً تتبنى آمال المواطنين في وطن حر متحرّر قائم على العدل والمساواة، ولنا كل الثقة بالقيادة الدرزية المعقودة اللواء للزعيم الوطني وليد جنبلاط لاستمرار الكفاح حتى تحقيق هذا الهدف.
يشدنا إلى مؤتمركم التوق إلى رؤية جمعيَّتكم تقوم بدور رائد في مضمار تأطير
العمل المؤسسي على صعيد الموحدين الدروز في العالم، المنتشرين في بقاع الأرض كافة. وإذا وجهنا نداءًنا لمؤتمركم من أجل تحقيق هذه الغاية فلأن وجودكم في هذا البلد العامر بمثل الحرِّيَّة والديمقراطيّة يفسح في المجال أمام حرية القول والتعبير. فإذا كان هذا شأن هذه البلاد، فإنَّنا ولا شكّ ننظر بالكثير من الأمل لجمعيتكم أن تبادر بدون إبطاء في إعادة فتح الملفّات التي سبق للمجلس الدرزي للبحوث والإنماء أن طرحها أثناء التحضير للمؤتمر الدرزي العالمي الذي كان مقرراً انعقاده في صيف عام 1981. وقد سعى هذا المجلس، ومن ثُمَّ المكتب الدائم للمؤسسات الدرزية إلى تطوير هذه الأفكار.
أما المواضيع التي ينبغي إعطاؤها العناية اللازمة لبحثها فهي:
-الملف الديني الذي يُعنى بجعل العقيدة في متناول عامة الموحدين وليس خاصتهم فقط، لكي يبقى للموحدين الدروز هوية في خضم الظروف التي يعيشون فيها.
-الملف التاريخي الذي يحوّل تاريخ الموحدين الدروز مادة سهلة يستسيغها النشء الطالع بحيث يجعل مآثر الآباء والأجداد دروساً في البطولة والشهادة، ويُزيل الظلم الذي أوقع بعضُ المؤرّخين أبناء عقيدتنا به، بصفتهم بناة الوطن وحماته وركناً ضامناً لوجوده واستقلاله.
-الملف التنظيمي للسعي إلى تأطير العمل المؤسسي الذي أشرت إليه سابقاً. عن طريق أمانة عامة دائمة تجمع الروابط والمؤسسات والجمعيات في الوطن الأم والاغتراب، ضمن بوتقة واحدة منظمة لحشد الطاقات وسهولة الاتصال ومواجهة الأعداء في الداخل والخارج. ولتحقيق هذه الغاية نتمنى أن تصدر عن مؤتمركم توصية بتأليف لجنة تحضيرية للإعداد لهذا المؤتمر، مع تحديد أهدافه وجدول أعماله والصيغة التنفيذية المقترحة.
– الملف الاقتصادي – الاجتماعي، وهو ما بدأ به إخوانكم في الوطن الأم في سعيهم لمواجهة آثار المحنة القاسية عن طريق المؤسسات التي اهتمت برعاية عائلة الشهيد والمعاق والجريح والمريض.
من هنا ندعوكم بإلحاح الى تقرير الخطوات العملية في دعم المؤسسة الدرزية للرعاية الاجتماعية التي تمثّل بنظرنا أملاً مضيئاً في ليل لبنان الحالك، يهدف مساعدة المتضررين من آثار المحنة اللبنانية التي طال أمدها، وكذلك من أجل إنجاز مشروع المؤسسة الصحية للطائفة الدرزية في عين وزين.
-الملف الثقافي الإعلامي الذي يجسده يومياً المكتب الدائم للمؤسسات الدرزية في تصديه لكلّ ما يقال وما يُكتب عن طريق المتابعة اليومية للأحداث اللبنانية والعربية والعالمية، وتوثيقها. كما يعمل عليه المجلس الدرزي للبحوث والإنماء الذي يرعى الإنتاج الفكري عن طريق إصدار الكتب التي تضيء سراجاً منيراً في معركتنا الحضارية. ومن هذا المنبر ندعو مؤتمركم لدعم صندوق المكتب الدائم لكي يتمكن من متبعة رسالته بالزخم الذي ترغبون فيه.
-أما الملف السياسي والعسكري، ولو أن جمعيتكم لا تتعاطى به مباشرة فإن الكل واحد منكم، على مستواه الشخصي، دوراً مهماً في دعم الموقف السياسي والعسكري بما تتوافر لديه من إمكانيات ليس على الصعيد المادي فحسب، بل وخصوصا على صعيد شرح الموقف الدرزي العام المنسجم مع الموقف الإسلامي الموحد والمتلاقي مع جميع القوى الوطنية بزعامة وليد جنبلاط والحزب التقدمي الاشتراكي، وليس أدل على أهمية هذا الموضوع من الزيارات المتكررة التي قام بها الأستاذ وليد جنبلاط والاتصالات المتعددة معكم، أفراداً وجمعية، وما طالبكم به المكتب الدائم مراراً وتكراراً، في السعي لإيجاد صيغة عمل متقدمة تأخذ بالاعتبار الإمكانيات المتوافرة لديكم ضمن القوانين والأنظمة التي ترعى وجودكم، والمهام الملقاة على عاتقكم كمواطنين موحدين دروز يعنيكم ما يجري في وطنكم الأم مباشرة. من هنا، نطالب جمعيتكم بالتجاوب مع كل مسعى تقوم به القيادة الدرزية لا لتوفير الجهد عنكم، بل لتأطير عملكم ضمن صيغة تحقق الأمال المعقودة عليكم وعلى الإمكانيات المتاحة لكم عن طريق الاتصالات التي يمكنكم القيام بها في عاصمة القرار الدولي الأولى، بما يعني وضع إخوانكم في الوطن الأم وتأثير ذلك على مستقبلكم ومستقبل أولادكم.
ومن ناحية ثانية، وقد اطلعنا اليوم، وفي ما مضى من أعمال مؤتمراتكم، على الهموم الدينية التي تواجهكم في الحفاظ على هويتكم، وأنكم فتحتم باب النقاش للعديد من الآراء والتفسيرات الدينية الواردة إليكم من الخارج ومن بين ظهرانيكم نعتقد جازمين أن النقاش الحر لا بد أن يُتيح بلورة الأفكار. إلا أن موضوعاً بمثل هذه الأهمية لا يتقرر بصورة إفرادية من قبل أي شخص أو هيئة مهما علا شأنه أو شأنها في الوطن الأم والاغتراب، بل يتقرر من خلال صيغة مسكونية معينة تتيح توحيد المفاهيم الدينية، وتضع حداً للاجتهادات الشخصية، لأنَّ أي عمل غير منظم ضمن هذه الأفكار يُضيف بعداً انشقاقياً على أحوالنا، وهذا ما لا يقصده أي منا لا سمح الله. لذا نطالبكم بالبقاء متعاونين ومتحاورين وقابلين لأي مسعى وواضعين الأمور عند نطاقها المحدود حتّى يحين موعد التحضير لهذه الصيغة المسكونية التي لها وحدها حق تطوير المفاهيم وتوحيدها.
معشر الإخوان، الوحدة هدفنا والاتحاد رائدنا، وبنو معروف لم يعتدوا يوماً على أحد، بل هم دائماً وأبداً شوكة في عيون أعدائهم وحربة تغرز في خاصرتهم. وحربهم التي خاضوها ودفع إخوانكم الشهداء الأبرار ثمناً لها من حياتهم وشبابهم ومستقبلهم لكي يبقى لكم وطن ولطائفتكم كرامة، أتت دفاعاً عن النفس وحفاظاً على الأرض والعرض.
أيها الإخوان، إن طال حديثنا فلأن شؤوننا وشجوننا تستوجب انتهاز جميع الفرص لإيضاح موقفنا في وطنكم الأم الذي لا يزال يرزح تحت وطأة الانشغال في الدفاع عن النفس، متناسيا ولو مؤقتا، سائر وجوه الحياة المدنية العادية التي تنعمون أنتم بها في ربوع هذه البلاد العظيمة التي هي نبراس مثل الحرية والديمقراطية والعدالة، وإن كانت هذه المثل لا تمارس في منطقتنا الشرق أوسطية. ويقيننا أن لبنان لا بُدَّ له أن يخرج منتصراً، في آخر المطاف، على جميع العوائق التي تحد من طموحه وتقدمه وتطوره الديمقراطي، ولئن كان هذا شأن الأوطان دائماً، أن تنبعث من جديد من بين الرماد كطائر الفينيق، فلأن في وطنكم رجالاً إذا أرادوا أراد والله من وراء القصد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المرجع: كتاب “الموحدون الدروز ثقافة وتاريخ ورسالة” – عباس الحلبي