خاص كيان 24
تسكنك الدهشة ويدهشك السكون حين ينزل الشعر شفيفاً من غيمة تقيم بين حدس القلب وعين الروح، لتمطرك بوابل المعنى في أصفى لحظات نقائه، وأبلغ لمعات وميضه، بما يشبه الانخطاف الى عالم علوي لا يتنزل، وكأن الدهشة التي غالباً ما ارتبطت بلحظة شعرية، هي مع طليع حمدان تجاوزت محدودية اللحظة ليدخلك في ديمومة الدهشة، لطالما انت تسمعه يقول القصيدة الزجلية، وهي تنسرب من قسمات صوت يؤاخي الضوء في أعلى درجات وميضه، فيخطفك إلى مركز شعاع النور ونقطة ارتكازه، ويبهرك بصور تنهمر عليك شلالا يزداد غزارة كلما ازداد تحسسا من حب او هيام او تحد او تعبير روحي.
استثناء شعري
هكذا الشاعر العملاق طليع حمدان استثناء شعري في فن الزجل والشعر المحكي، يرشقك بالنور المصفى، وبشذا الياسمين وبوحه العميق، ويهز فيك العبق والعطر وكأنك للمرة الأولى تسمع كلمات مشحونة بهذا الإحساس والذوق والذائقة الشعرية التي تشعرك بعالم السحر وتدخلك بكيمياء اللحظة التي يتشابك فيها فضاء الرؤيا وعالم الرؤيا لتعود من ذلك الانخطاف الشعري الى ذاتك الحاضرة بين جمهور سمّاع الزجل وقرّاء معانيه المحلقة، فتسأل ذاتك السؤال الذي يؤرق صمتك، لماذا قبل أن يقول طليع حمدان تلك الكلمات وفي سياقها الشعري الأخاذ، وبهذه الرهافة والعلو والجمال، كنا نمر عليها مرورا عاديا، فماذا فعل طليع حمدان بتلك الكلمات حتى بدت وكأنها تولد للمرة الأولى مسكونة بالجن مزنرة بكوثر العبارة ونغمية الموسيقى الصوتية التي تآخت مع صوت طليع حمدان الذي يعلو فوق الوصف، لكأن في صوته أسرار آلهة الارض والسماء يبوح بها طليع حمدان ليأسر السامع ويتركه حرا طليقا لا يخشى التحليق، ويمتلك فيه الاحساس ليقبض على مفاتن الروعة في أبهى تجلياتها.
طليع حمدان الذي غنى القصيدة وأدخلها في كل قلب لتستوطن السامع وهي تتسلل الى أعماقه من ثقوب الروح، غنى لكل الناس من محبين وعشاق وسكارى ومناضلين وموجوعين متألمين، وفريحين مسرورين، بموهبة تربعت على عرش ريادة الزجل على مدى ستة عقود من الزمن معاصرا في بداياته كبار الشعراء، مشاركا ارقى وابلغ جوقة زجل عرفها لبنان جوقة زغلول الدامور التي كانت تضم ايضا الشاعر زين شعيب وإدوار حرب.
لطليع حمدان معجم شعري كبير وواسع ينتمي الى حقل الربيع فكثرت مفرادت من مثل الربيع والينابيع والشجر والماء والهواء والشمس والنهار والطبيعة بكافة عناصرها، لذا سمى طليع حمدان الجوقة التي اسسها باسم جوثة الربيع،التي كانت ايقونة المنابر ولؤلوة اعماق الشعر وسمفونيته الخالدة.
نشأته وولادته
في قرية عين عنوب في قضاء عاليه، وفي 19 كانون الثاني من العام 1944، كان الجبل وكان الزجل على موعد مع ولادة طليع حمدان. والده نجيب حمدان ابن بلدة عين عنوب الذي كان يعمل في الزراعة، ووالدته فاطيني يحيى.
نشأ طليع حمدان وترعرع وسط عائلة مؤلفة من 11 ولدًا. وكان كوالده محباً للناس ولعمل الخير، ورث عن والديه محبة الناس، والعيش بخوف الله.
تأثّر طليع حمدان بطبائع قريته وأجوائها والتي اشتهرت تاريخياً بكثرة عيون الماء فيها وهي حسب ما ذكر على عدد أيام السنة، كما اشتهرت أيضًا بالشعراء من أمثال الياس حرب، جميل شجاع، شفيق شجاع، جورج حرب.
عاش طليع حمدان حياة غنيّة جماليًا وشعريًّا، حيث كانت الأعراس في عين عنوب تقام وسط حضور جوقات الزجل. وكانت ردّات القرادي تتدفق في المناسبات كما يتسلل الماء الى كل ارض عطشى.
تآخت ذاكرته مع صور من روائع طبيعة عين عنوب، وفي ثنايا تلك الطبيعة كتب أجمل القصائد، وبدأ يردّدها في حفلات منتزه القرية على ضوء القنديل مع الشاعرين سعيد وجورج حرب. كما اختزنت ذاكرته باكرًا ردّات الشاعرين الزجليين شحرور الوادي وعلي الحاج.
عبقرية شعرية
بدأ طليع حمدان تعليمه في مدرسة عين عنوب الرسمية، وكثيرا ما كان يتخلّف عن الذهاب الى المدرسة ليتسنى له حضور حفلات شحرور الوادي بأكملها، الامر الذي انعكس بشكل سلبي على دراسته، حيث كان والده قد حذره من مغبة ذلك، لكن ملامح عبقريته الشعرية ما لبثت ان انفجرت في باكورة حفلاته التي أحياها مع الشاعر زين شعيب، حيث كان قد سمعه يغني في إحدى حفلات القرية وأعجب بصوته، اذ كانت تلك الحفلة عبارة عن مبارزة بين الرجلين في كازينو خلدة على شاطئ البحر العام 1964. حيث برز إسم طليع حمدان في فضاء الشعر والزجل. ثم كانت الانطلاقة الفاعلة والمؤثرة في العام 1965 مع الشاعر الزجلي زغلول الدامور الذي أعجب به في تلك الحفلة، وقررا العمل سوّيًا في جوقة زغلول الدامور التي كانت تضمّ اليهما الشاعرين زين شعيب وإدوار حرب.
ومنذ ذلك الوقت كانت غالبية المناطق اللبنانية على موعد شبه يومي مع تلك الجوقة لاحياء الحفلات الزجلية، التي شغلت موقعا متقدما في الاحتفالات التي كانت تلاقي رواجا استثنائيا في معظم المناطق اللبنانية وبلدان العالم، حيث كان يتقاطر اليها الآلاف من محبي الزجل. ووصلت إلى تحقيق قفزة عالمية، في بلاد الإغتراب كالولايات المتحدة الأميركية، البرازيل، الأرجنتين، كندا، أوستراليا وغيرها، وايضا في البلاد العربية مثل الكويت، دبي وقطر ، خصوصا عند الجاليات اللبنانية والعربية، اذ حملت إلى اللبنانيين الشوق، الحنين، العادات والتقاليد اللبنانية.
في العام 1959 تزوّج من السيدة سلوى عيد، ورزقا أربعة أولاد هم شادي الذي نال إجازة في المحاسبة، زينة إجازة في إدارة الأعمال، سحر إجازة في العلوم السياسية وخزام إجازة في التاريخ.
جوقة الربيع
مع اندلاع الحرب الاهلية في العام 1975، أوقفت الجوقة محركاتها فغاب إحياء الحفلات التي كان آخرها في مدينة أوتاوا – كندا، بحيث ودّع أعضاؤها بعضهم بعضًا هناك.
في العام 1976، أنشأ الشاعر طليع حمدان جوقته الخاصة واسماها جوقة الربيع، وهي مؤلفة من الشعراء: طليع حمدان، خليل شحرور، أنطوان سعادة ونزيه صعب.
أحيت الجوقة الحفلات الزجلية الرائعة في مختلف المناطق اللبنانية، وكذلك في دول الاغتراب مثل كندا، أميركا، أوستراليا وفي الخليج العربي، كذلك كانت لحمدان حفلات تحدٍّ مع كل من الشعراء جرجس البستاني (في البترون)، موسى زغيب (في عين سعادة وفي عمان – الأردن)، وأسعد سعيد (في كفرحيم)، سيّد محمد المصطفى (في الغازية، بتاتر وخلدة) وزين شعيب وزغلول الدامور ( في بيت الدين).
تألقت جوقة الربيع في احياء الحفلات في لبنان وخارجه، وهي تضمّ اليوم إلى جانب طليع حمدان الشعراء: فيكتور ميرزا، نديم شعيب ومازن غنّام.
يرى معظم النقاد والادباء ان طليع حمدان من كبار شعراء الزجل اللبناني، تميّز بامتلاكه جميع أركان الشاعر المنبري واهمها: الصوت، الأداء والشعر.
الشعر الحماسي
يتميّز طليع حمدان بشعره الحماسي وبنبرته الوجدانية وبصوره الساحرة، بالإضافة إلى صوته الحنون. وقد اشتهر بلونين طبعا شخصيّته الزجلية، اللون الأول هو الغزل بالمرأة وبالطبيعة، أما الثاني فالرثاء، بحيث أبكى الملايين.
يؤكد حمدان أن الزجل منذ ثمانين عامًا (أي منذ شحرور الوادي) ما زال على حاله. الإفتتاحية، ومن ثم القرّادي، وبعدها الحوارات، الغزل، العتابا والشروقي.
وقد أضاف كل من الشعراء خليل روكز، زين شعيب وزغلول الدامور بيتين إلى الردّة التي كانت مؤلفة أصلًا من بيتين. كما أضاف الشاعر خليل روكز الآلة الموسيقية كالربابة، التي كان يعزف عليها مهدي زعرور في الخمسينيات.
والى وقت ليس ببعيد كان قلم الشاعر طليع حمدان سيالا فابدع أجمل القصائد الغزلية والوصفية، اذ أن الشاعر كما يقول “يخلق من روحه تجديدًا للصورة الشاعرية، أو لصورة أو لفكرة جديدة لم يتطرق إليها بعد. ويؤكد أن الناس تعود إلى سماع الألوان التراثية الجميلة ومنها الزجل.
أيام وذكريات
للشاعر طليع حمدان عدة مؤلفات ودوواين شعر ومنها:
براعم ورد ( 1990).
جداول عطر(1995).
ليل وقمر» ( 1999).
انطريني أنا جايي» ( 2011).
إفتتاحيات طليع حمدان (2017).
تقديرًا لعطاءته الشعرية وموهبته الفذة وابداعه، أقيم له نصب تكريمي في بلدته عين عنوب، وحاز الشاعر الزجلي طليع حمدان عدة دروع وأوسمة منها:
وسام الأرز من الرئيس إميل لحود (2001).
درع تقديري من الرئيس رفيق الحريري (2002).
درع من الجامعة الثقافية في العالم سيدني – أوستراليا ( 2007).
ميدالية كمال جنبلاط، تقدمة المكتبة الوطنية – بعقلين (2013