مع تراخي قبضة العثمانيين على الأقاليم التي تدخل في نطاق بلاد الشام، وبموازاة اندلاع الثورات في أماكن متعددة، أصبح لجغرافية المكان وتضاريسه الكلمة الفصل في احتواء حركات التمرد والفارين من السلطات التي حكمت على مدى ثلاثة قرون من الزمن.
تُعد طائفة الموحدين الدروز واحدة من الطوائف التي رفضت القيود التي فرضتها معظم السلطات التي حكمت المنطقة العربية، حيث لم يكن جبل حوران، أو كما يعرف بجبل الدروز وجبل العرب، الواقع في أقصى الجنوب السوري موئلا لأبناء الطائفة المعروفية قبل القرن الثامن عشر، لكنه تحول بعد اشتداد الثورات معقلا للمتمردين على الحكم العثماني والولاة الذين حكموا البلاد وبعد ذلك مقرا للثائرين على الانتداب الفرنسي.
وخلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تحوّل جبل حوران الى مقرّ استقطب المتمردين من أقاليم ثلاثة وسمت بتمردها على الدولة العثمانية حيث تحصنوا في هذا المعقل العصي على الجيوش النضامية الذي أصبح اسمه محافظة السويداء بعد الاستقلال عن الانتداب الفرنسي.
فقد وصلت إلى جبل حوران مجموعات من جبل الشوف بعد معركة عين دارة الشهيرة بين القيسية واليمانية عام 1711، وكذلك بعد أحداث الحرب الأهلية بين المسيحيين والدروز في جبل لبنان عام 1860. ثم وصلت مجموعات من الجليل الفلسطيني من صفد بالتزامن مع توسع الشيخ ظاهر العمر الزيداني في أقاليم الجليل، من صفد الى عكا، حيث كان الدروز قد تمردوا عليه في تلك المناطق فهادنهم ثم بطش بهم وهجرهم مرتكبا ابشع المذابح ومنها مذبحة طربيخا عام 1721. فيما تشكلت الهجرة الثالثة من جبل السماق في محافظة إدلب بعد العام 1810 وسميت حينها المجموعات الحلبية. ورغم أعدادها القليلة إلا أنها تحكمت بزعامة جبل حوران حيث حكمت عائلة الاطرش منتزعة الزعامة من عائلة حمدان الشوفية.
سيطرة ابراهيم باشا
استطاعت قوات إبراهيم باشا المصري (1789 – 1848) أن تفرض سيطرتها على بلاد الشام، وفي عام 1831 صدر قرار بالتجنيد الإجباري لسكان المدن والقرى، فأحدث هذا القرار ردة فعل قوية من سكان شمال بلاد الشام وجنوبها فثاروا على هذا القرار، وأكبر تلك الثورات كانت في جبل حوران، حيث أنهكت القوات المصرية التي تكبدت خسائر كبيرة، كانت كفيلة بأفول نجم حكم أسرة محمد علي لبلاد الشام، ولا تزال قصص المواجهات البطولية للدروز تروى الى يومنا هذا ولعلّ أروعها بطولة الشيخ أبو علي قسام الحناوي وسدّه للمدفع بعمامته.
ولعل الوصف الأدبي المشوّق الذي سطره شاهد العيان الديبلوماسي الروسي قسطنطين بازيلي، واستعرض فيه بشكل مقتضب وقائع هذه الثورة، وإسهاماتها في تقهقر إبراهيم باشا وجيشه، وتحطيم صورته شبه الاسطورية التي هزت عرش سلاطين الأستانة، لعله كفيل بتصور تلك الحقبة واستبسال الدروز في الدفاع عن كرامتهم وهيبتهم حيث يقول: “في عام 1837 طلبت الحكومة من دروز حوران اثنين وسبعين مجندا، واستدعي شيخهم الطاعن في السن إلى دمشق، وعبثا إلتمس إعفاء شعبه من التجنيد، فأهانت حاشية الباشا الشيخ بوقاحة، فنوى أن يثأر من الجنود المصريين ويجعلهم يدفعون غاليا لقاء الإهانة التي ألحقوها بلحيته. أعلن الشيخ استعداده لمساعدة الحكومة على جمع المجندين، لكنه طلب لهذا الغرض أن ترافقه أكبر فصيلة عسكرية ممكنة، وأرسل إبراهيم باشا معه إلى حوران أربعمئة من الخيالة غير النظاميين الذين استقبلوا هناك بالحفاوة والترحاب، وفي أول ليلة ذُبحوا جميعا، ولم ينج إلا رئيس الفصيلة الذي سمع وهو نائم أنين المشرفين على الموت، فتمكن من الفرار عبر النافذة وأبلغ الباشا في دمشق بما جرى، ثم صار الدروز يرحلون إلى منطقة اللجاة المنيعة”.
معارك اللجاة
ويروي بازيلي وقائع المعارك الدامية في وعرة اللجاة البركانية التي كلفت قوات إبراهيم باشا أكثر من 15 ألفا من جيشه النظامي، وضابطا كبيرا برتبة باشا، وأربعة ضباط برتبة لواء، وستة عشر من قادة الأفواج والكتائب.
ويكمل بازيلي على طريقة الادب الروائي فيضيف: “طال أمد الحرب، وبأمر من محمد علي هرع مصطفى باشا حاكم كاندي إلى سوريا لنجدة إبراهيم باشا مع فوجَي مشاة، وثلاثة آلاف ألباني. إن الألبان الذين تربوا في حرب الأنصار في الرومللي، كانوا وحدهم القادرين على مقارعة الدروز، ولكنهم، وبعد عجزهم عن التغلب عليهم داخل اللجاة، قرر إبراهيم باشا محاصرة المنطقة من كل الجهات، وإماتة المتمردين جوعا، وهذا ما لم يتسنّ له. كانت فصائل خفيفة من الدروز المرتدين بزات المصريين المقتولين، تسير بنسق وتخدع الجيش رغم يقظته، وتستولي على مؤونته. عندها لجأ إبراهيم باشا إلى وسيلة أخرى: في إحدى حملاته داخل المنطقة الخطرة، ردم بالحجارة وبتفجيرات البارود النبع الوحيد لماء الحياة في كل المنطقة، ثم تقدّم تحت ستار المدفعية القوية إلى ضفة البرك وملأها بجثث الناس والخيل. كان ذلك في فصل الصيف الحار من عام 1838. أنتن الماء، ولكن الدروز لم يتوقفوا عن إطفاء ظمئهم ولم يعبأوا بطعم الماء النتن. ووجد إبراهيم باشا وسيلة لتسميم الماء، فألقى في تلك البرك عدة أباريق من الزئبق، فاستولى الرعب على الدروز وهم يرون الموت المفاجئ لأولئك الذين كانوا ما يزالون يشربون الماء من البرك المسمومة…”
ورقة ضغط
شكلت حرب المياه ورقة ضغط كبيرة لانهاء التمرد حيث اشتبكت القوات المصرية مع السكان الدروز فهزمت قوة التمرد الرئيسية في وادي التيم. وجرت مساع حثيثة لإقناع الزعماء الدروز بالتفاوض على السلام مع إبراهيم محمد علي باشا، إذ توسط الشيخ الدرزي حسن البيطار من راشيا والمسيحي جريس أبو الدبس في الاتفاقية، فوافق إبراهيم باشا على منح العفو للمتمردين اضافة الى وضع الدروز في السخرة بدلًا من الإعفاء من التجنيد، مقابل أن يُسلم الدروز الأسلحة والمحتجزين من المصريين.
وقعت الاتفاقية في 23 تموز 1838. فسلم الدروز أسلحتهم عن طيب خاطر، لكنها لم تكن الأسلحة ذاتها التي استخدمت في القتال، الأمر الذي دفع إبراهيم باشا لإرسال ضباطه لطلب الاستسلام الفوري لكامل ترسانة الدروز من الاسلحة والتي أخذت وقتا طويلا. فيما بقيت مجموعات صغيرة رفضت تسليم سلاحها ومنهم الشيخ حسين ابو عساف في اللجاه، وشبلي العريان في جبل الشيخ، الذي عاد ولجأ إلى بعلبك ثم سلم نفسه للمصريين.
وعندما التقى شبلي العريان بإبراهيم باشا، اقترح خدماته باعتبارها غير نظامية، حيث قُبل في الخدمة المصرية. أُرسل شبلي العريان لاحقًا خارج البلاد حيث عُين في سينار، وفي وقت لاحق انضم إلى آخر 100 متمرد درزي في اللجات 400 متمرد درزي آخر بحلول عام 1839 وورد أنهم دمروا قرية بالقرب من حاصبيا.
تقلصت هيمنة إبراهيم باشا على سوريا العثمانية مع اتفاقية العام 1840 التي وُقعت خلال الحرب المصرية العثمانية الثانية (1839-1841)