يجابه الشعر الحياة بكل ما فيه من طاقات كامنة في اللغة الشعرية، ليبدأ عملية الخلق بدافع قد يكون غامضا، إذ أنه لو استطاع الشاعر أن يحيط بكل ما في نفسه لما كانت القصيدة ولما ولد الشعر، وبذلك تصير القصيدة هي الحقيقة الكامة في ذاته، ليصطدم الشاعر بتحد كبير هو ما حدود اللغة؟ وما مدى قدرتها على استيعاب التجربة الشعرية، لينتقل إلى تحد آخر يتمثل في أساليب التعبير الشعري المتوارثة ومرونته في تطويع اللغة وفي تحديث تلك الأساليب لتتناسب مع قضاياه المعاصرة وهمومه واهتماماته.
وإذ شكلت بدايات القرن الماضي مسرحاً لتصاعد وتيرة الصراع بين المحافظين والمجددين على مستوى القصيدة العربية، خصوصا في النصف الثاني من عصر النهضة، فقد كان للشاعر والأديب أمين سعيد تقي الدين إسهاماته الشعرية في بلورة مفهوم حداثوي للقصيدة الشعرية، وإن غلب على قصائده طابع الشعر العمودي الكلاسيكي من حيث وحدة الوزن ووحدة القافية، ليبقى السؤال المركزي ما موقع تقي الدين من هذا الصراع؟ وما مدى ارتباط شعره بموجة التجديد قبل عقدين من ظهور شعر الحداثة وقصيدة النثر أو ما يسمى الشعر الحر؟ فهل كان تقي الدين من الشعراء الذين مهدوا للحداثة الشعرية في لبنان؟.
مؤسسو النهضة الجديدة
يعد أمين تقي الدين من مؤسسي النهضة الجديدة، وفي طليعة المجددين على مستوى اللغة الشعرية والقضايا التي شغلت تلك الحقبة، ولو تسنى له أن ينصرف إلى الكتابة لكان تقي الدين من أكثر شعراء الحداثة شهرة، لكنه كان مقلا في نتاجه الشعري من جهة، ولرحيله المبكر التأثير الأساسي في أن طوى قصائده بعد ان بلغت نضجها وبدأت تشغل حيزا مهما لدى الرأي العام وفي الصحافة، كونه كان صحافيا وكاتبا الى جانب كتابه الشعر.
ما من شك أن فرادة أمين نخلة هي في عذوبة ألفاظه وانسيابية رؤاه الشعرية وفي امتلاكه لغة عميقة تصويرية حينا وكشفية في كثير من قصائده التي اتخذت بعدا ذاتيا ووجوديا، خصوصا في قصائد قليلة تناول فيها الموت في بعده الوجودي وكأنه كان يستشعر قدره ويحس بأن العمر ينسرب من بين اصابعه، في حين ان البعد التصويري تجلى في قصائده الوصفية وفي شعره الرومنطيقي الذي تناول الطبيعة وقضايا الحياة والوطن، فأغنى الشعر بما امتلكت عبقريته من صور أخاذة تحسها ولا تستطيع القبض على أسرار مفاتنها، فلم يتخل عن التراث ولم ينجرف في تيار تقليد الشعراء الغربيين بل كان مجددا بحذر وإتقان شديدين، حتى أضحى القراء ينتظرون ماذا سيكتب؟
نشأته وولادته
في بلدة بعقلين في قضاء الشوف، تفتحت عينا أمين سعيد تقي الدين في بيت علم وثقافة وأدب، من عائلة درزية، فكانت ولادته في 7 تشرين الثاني من العام 1884. والده سعيد تقي الدين الذي شغل منصب رئيس رابطة خريجي الجامعة الاميركية في بيروت. دخل المدرسة في بلدته، ثم انتقل في سن السابعة إلى مدرسة عبيه، ليحظى بفرصة تعلم اللغة العربية على يد المؤلف اللغوي علي ناصر الدين، ثم انتقل الى مدرسة الحكمة الثانوية في بيروت، وهناك تابع تعلم العربية من عالم النحو العربي عبدالله بستاني، وبرزت موهبته في اللغة العربية والفرنسية، ثم بدأ تقي الدين دراسة اللغة الإنجليزية في الكلية السورية البروتستانتية، والتي تُعرف الآن باسم الجامعة الاميركية في بيروت، ازدادت معرفته ثراءً وزاد توقه إلى الحرية والاستقلال. ثم اصبح كاتبا وشاعرا وصحافيا ومحاميا وسياسيا في آن. ثم سافر بعد ذلك الى مصر، وأصدر هناك مجلة الزهور مع أنطون الجميّل.
الملاحقة
إلى قلب الدولة العثمانية اسطنبول سافر تقي الدين وكانت قد أزعجتها حركة النهضة العربية. ثم ذهب بعد ذلك إلى مصر حيث درس القانون في مكتب إسكندر بن عمون. بين عامي 1910 و 1912، وتعاون مع أنطون الجميل في إصدار مجلة الزهور التي كانت منبر الشعراء والكتاب المعاصرين البارزين، وعززت الروح الوطنية.
قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1913، عاد تقي الدين إلى وطنه، ومكث في قريته لكن سرعان ما استدعته السلطات العسكرية؛ حيث كان قد حكم عليه بالإعدام غيابيا. حينها نصحت السلطات تقي الدين سرا بالاختباء، حيث كان قائد درك بيت الدين في طريقه لإحضاره. فلجأ تقي الدين إلى مزرعة يملكها والداه في أطراف بعقلين. فعكف فيها على كتابة المقالات والشعر وترجمة رواية بعنوان «قصة شاب فقير» من الفرنسية إلى العربية. وقبل أن ينهي الترجمة حيث بقي عشر صفحات، وافته المنية بسكتة قلبية فأكمل الترجمة ابن اخيه خليل تقي الدين.
عاد من مصر إلى لبنان في العام 1912 فتزوج من نبيهة عبد الملك ابنة الشيخ أمين عبد الملك ابن عمه. كان الشيخ عبد الملك متمسكا بالعادات والتقاليد وطلب أن تبقى ابنته في لبنان مع زوجها المستقبلي، بينما فضّل أمين تقي الدين الانتقال معها إلى القاهرة وهكذا عاد أمين إلى مصر بمفرده وبدأ في التراسل سراً مع خطيبته من خلال شقيقه الأصغر فؤاد، وظافر خليل المشعلاني الذي كان صديقاً لنبيهة.
مسيرة زاخرة
بعد انتهاء الحرب وفرض الانتداب الفرنسي على البلاد، كلفته السلطات الفرنسية بالإشراف على الإعاشة، وتم تعيينه لاحقًا كعضو في المحكمة التي تم إنشاؤها للنظر في معاملات بيع وشراء العقارات التي تمت خلال الحرب. أمضى تقي الدين عامين في هذا المنصب. ثم انتقل تقي الدين إلى بيروت وعمل في الصحافة. بدأ الكتابة في جريدة البيرق ثم جريدة البرق.ثم أنشأ مكتب المحاماة الخاص به في عام 1919 مع صديقه جبرائيل نصار، فنجح نجاجاً باهراً حتى صار بعده من أقوى محامي الجزاء في لبنان. عام 1921، شغل منصب أمين سر نقابة المحامين في بيروت كما شارك في تأسيس «جمعية الشباب اللبناني» عام 1920. كما انضم إلى «جمعية الأدب العربي» وشارك في تأسيس «رابطة الأدب» التي دعا إليها بشارة الخوري إلى جانب العديد من العلماء والكتاب بهدف الجمع بين الكتاب في لبنان والعالم العربي. شارك كذلك في تأسيس «جمعية خريجي مدرسة الحكمة»، حيث شغل منصب نائب الرئيس. كما كان عضوا في مجلس الطائفة الدرزية. ترشح تقي الدين للانتخابات النيابية في الأعوام 1925 و 1927 و 1931، لكنه لم ينجح. كما ساهم في تأسيس عدة أحزاب سياسية محلية وانخرط في بعضها لفترة، منها «حزب الاتحاد الديمقراطي» الذي كان عضوا فيه، و «حزب الجبهة اللبنانية» إلى جانب يوسف السوداء، إلياس الخوري وإلياس بعقليني، وكان هدف الحزب هو المطالبة باستقلال لبنان.
تميزت مرافعات أمين في المحكمة ببراعته الخطابية لدرجة أن رئيس محكمة الجنايات الشيخ محمد الجسر قال له ذات مرة: «مهاراتك الخطابية تجعلني أخشى على نظام العدالة. باستخدام حججك، يمكنك جعل الحجة الخاطئة تبدو صحيحة».
اشتهر تقي الدين بكتابه «أدب المحاماة» وترجمته «الأسرار الدامية» من الفرنسية لجين دي كاستانج.
جمع بعض شعره ابنه وسيم. وقد ضاعت فيما بعد خلال أحداث بيروت الدموية وجمعه مرة أخرى نجيب البعيني في الآونة الأخيرة. وصفت صياغته بأنها منتقاة بعناية وأناقة.
الوفاة
في بيروت وبتاريخ 31 أيار 1937 فارق تقي الدين الحياة متأثراً بنوبة قلبية. حيث أقيمت جنازته في بعقلين، وأطلق اسمه على أحد شوارع بيروت في تل الخياط.
وفي 10 كانون الثاني 1968، أقيم له مهرجان تذكاري في قاعة اليونسكو ببيروت، تحدث فيه مجموعة من الشعراء والكتاب عن الذكرى الثلاثين لوفاته.