يسكن التاريخ مدينة راشيا وتسكنه، فهي البلدة التي احتضنت احدى أقدم القلاع في لبنان والتي تحولت مع انسحاب الفرنسيين من لبنان الى قلعة الاستقلال. وبلدة راشيا تعد واحدة من أجمل القرى ليس في لبنان فحسب، انما أيضا في القرى الشرق متوسطية، إذ تتميز بقرميدها العتيق الساحر وبيوتها الحجرية القديمة وسوقها التراثي العتيق.
تنتصب بلدة راشيا عند تخوم جبل الشيخ في منطقة وادي التيم الأعلى في البقاع، تلك المنطقة التي شكلت لعقود طريق التجارة بين فلسطين وسوريا ولبنان، فكانت محطة القوافل وملقى السبل، فيها يستريحون بأمان، وبين بيوتها تنتشر الاخبار والثقافات، كونها محطة القوافل ومسرح تعارفهم واحاديثهم، فشكلت تاريخيا نقطة عبور وصلة وصل بين المحافظات.
منطقة نموذجية
تتميز راشيا كونها منطقة نموذجية بتنوعها البيولوجي الفريد في لبنان، وتتشكل فرادتها من خلال احراجها البكر ونقائها وكثرة انواع الاعشاب فيها والتي تعد بمئات التسميات خصوصا لجهة جبل الشيخ، وهي غنية بالزراعة خصوصا العنب والزيتون واللوزيات على انواعها، وهي الممر الآمن للطيور المهاجرة على انواعها، اذ يقيم بعضها بشكل مؤقت لتوفر مقومات البقاء من طعام وظروف مناخية ملائمة.
وراشيا واحدة من أكثر القرى اللبنانية غنى بالحضارة والعمران، تقع في محافظة البقاع، اذ تبعد بلدة راشـيا الوادي مسـافة 50 كلم عن زحلة وعن بيروت 85 كلم. يبلغ عدد سكانها المقيمين ما يزيد على عشرة آلاف نسمة ويرقى إنشاء بلديتها إلى العام 1860.
استوطنها الرومان والصليبيون وكانت معقلا للشهابيين. وتشتهر بقلعتها التي سجن فيها رجال استقلال لبنان. يبلغ عدد سكان راشيا حوالي 6,000 إلى 8,500 نسمة معظمهم من الدروز إلى جانب أقلية مسيحيَّة.
ومما تعنيه لفظة راشيا في السريانية “لقمة” او الرأس وذلك توافقا مع موقعها الجغرافي المنحدر فوق هضبة عالية. ودعيت براشيا الوادي نسبة إلى وادي التيم وتمييزا لها عن جارتها الجنوبية راشيا الفخار. ويحتمل ان يكون الاسم لفظة آرامية مركبة من مقطعين «راش – أيا» ويعني «رأس أيا»، وايا هو اله المطر والعواصف عند البابليين وللتسمية هذه علاقة وثيقة الصلة بتاريخ حرمون.
قديما استوطن الرومان راشيا، ومن ثم استوطنها الصليبيون، ولهم البرج الصليبي في قلعة راشيا وما تلاهم من تعاقب لحكام وممالك ابرزهم على الإطلاق حكم الأمراء الشهابيين لمنطقة وادي التيم الذين استقروا فيه منذ سنة 1183 م تقريبا وكان معقلا لحكمهم في العهدين الصليبي والمملوكي، والأمير بشير الشهابي الأول هو من راشيا.
وفي عهد الأمير فخر الدين الثاني اكتسبت راشيا امتيازات مهمة، لتتحول الى معقل من معاقل الامير. ومحطة من محطات مروره واستراحته. وفي عهد الأمير بشير الثاني، وبعد دخول الجيش المصري إلى لبـنان تصدت منطقة وادي التيم للجيش المصري وكبدته خسائر فادحة.أما خلال عهد القائمقاميتين والمتصرفية فقد أصبحت المنطقة في غالبيتها خارج حدود الجبل وأتبعت إلى ولاية الشآم، ثم اعيدت اليه بعد سنة 1920 ابان الانتداب الفرنسي وما اعقبه من اندلاع الثورة السورية الكبرى سنة 1925 وصولا إلى حقبة الاستقلال.
قلعة الاستقلال
ما يميز راشيا الوادي تلك القلعة التاريخية التي عرفت فيما بعد باسم «قلعة الاستقلال» ويعود بناء القلعة إلى القرن الحادي عشر، كم تميزت بأبنية وآثار شهابية تعود إلى العام 1370 م، وفي راشيا سوق راشيا ألأثري ويقع وسط البلدة محاطا بقرابة 36 بناء قديما، وارضه مرصوصة بالحجارة بشكل هندسي متقن وطوله مئتين وخمسين مترا، ويعود تاريخه إلى القرن السابع عشر.
في راشيا أقدم الكنائس وهي كنيسة القديس «مارموسى الحبشي» لطائفة السريان الكاثوليك، وتمتاز هذه الكنيسة بالفن المعماري الذي استخدم الطريقة القوطية أي حجارة العقد في بنائها حيث اتت على شكل سفينة، وهي نسخة طبق الأصل من حيث الشكل والمخطط عن كنيسة قلعة جندل التاريخية في سوريا. وتحتفظ الكنيسة بأيقونة شفيعها القديس مار موسى الحبشي النادرة الوجود، والتي يعود تاريخها إلى أكثر من خمسمائة سنة.
تعد راشيا من اهم المناطق التاريخية في لبنان والمنطقة حيث مرت عليها حقبات أهمها ” الكنعانيون، الاموريون، الآراميون، الفنيقيون، الاشوريون.
يشير الباحث الدكتور منير مهنّا إلى أن وجود القلعة على رأس تلّة وموقعها الجيوستراتيجي سمح لها بلعب أدوار مهمة عبر التاريخ، أقدمها يعود إلى القرن الحادي عشر حين بنى الصليبيون حصناً لهم فيها بهدف تأمين مسار الحجاج المتوجهين نحو القدس وبالعكس، علماً أن وادي التيم كان تاريخياً الممرّ الطبيعي بين عواصم المنطقة، لذا كانت وظيفة القلعة وحصنها تأمين قوافل الحجاج والتجار”.
يضيف: “بالعودة إلى ما قبل الصليبيين، يعد البرج الواقع في الجهة الجنوبية الغربية للقلعة أقدم أماكنها. ويرجح أن هذا البرج كان معبد إله الطقس والمياه العذبة والعميقة بدليل وجود مجموعة من أربع آبار رومانية داخله، كان كلّ منها يتّسع لأكثر من خمسة آلاف جرّة مياه. واليوم لا تزال توجد بئر واحدة قيد الاستعمال، في حين ردمت الآبار الأخرى بفعل الزمن وعوامل أخرى. وإلى جانب البرج هناك قصر القناطر الذي سكن فيه الأمير أبو بكر شها”.
خلال حكم العثمانيين ، كانت تسمّى القلعة باسم القشلة، وهي كلمة تركية تعني مكان إيواء الخيول والماشية. ولكن عندما أتى الفرنسيون إلى وادي التّيم جعل الجنرال هنري غورو القلعة قاعدة عسكرية ومقراً سياسياً لتلبية طموحات الوجود على مسافة قريبة من دمشق، إذ إن راشيا الوادي كانت أحد الأقضية الأربعة التابعة لدمشق. واختيار الفرنسيين راشيا الوادي وقلعتها سببه موقعها الاستراتيجي”.
ثورة 1925
ان الحدث الأبرز والأكبر الذي شهدته القلعة تمثل بمهاجمة الثوار لها بقيادة زيد الأطرش، شقيق سلطان باشا الأطرش، عام 1925، حين سقط 400 شهيدا من الثوار في المعركة التي استمرت من 20 إلى 24 من تشرين الأول. وقد ترك الفرنسيون خلفهم أسماء أولئك الشهداء إضافة الى 22 صورة تشهد على تدمير وحرق راشيا الوادي. وحتى اليوم لا يزال الفيلق الرابع للقوات الخارجية في الجيش الفرنسي يذكر موقعة قلعة راشيا في نشيده، بسبب تكبد الفرنسيين خسائر فادحة في المعركة.
يعرب مهنّا عن أسفه لأن “هذه المعركة لم يذكرها التاريخ الرسمي، وأن تاريخ راشيا الوادي وقلعتها الأثرية سقط في طيّ النسيان، لكن حدثاً مهماً جداً أضاء على قلعة راشيا التي بقيت تحت سلطة الفرنسيّين حتى عام 1946، وتحوّلت لاحقاً الى سرايا لإنجاز معاملات رسمية حتى عام 1964، حين طلب الجيش اللبناني التمركز فيها، وهو أمر مستمر حتى اليوم تحديداً في الجزء الأثري للقلعة الذي يسمح بالدخول إليه في مناسبات معينة، مثل يوم الاستقلال، أو بعد أخذ إذن من الجيش نفسه.
عندما اعتقل الفرنسيون رجال الاستقلال بين 11 و22 تشرين الثاني من عام 1943، لا بد أنهم اختاروا المكان الأكثر تحصيناً، فسجّلت قلعة راشيا هذا الحدث بجزء من تاريخه”.
ويشرح مهنا “يقع سوق راشيا الاثري وسط البلدة يكتنز في محيطه 36 بناء قديما ، وهو شارع مرصوف بالحجارة بشكل هندسي متقن وطوله مائتي وخمسين مترا ، ويعود تاريخه إلى القرن السابع عشر وقد تم رصفه عام 1927 بإشراف السلطات الفرنسية من قبل المعلم الشويري شكري عبد الأحد وقد اهتمت وزارة السياحة بإعادة ترميمه وإنارته عام 1997 ويصنف من الأسواق الأثرية وهو السوق التراثي الوحيد في منطقة البقاع حيث تقام فيهعدة مناسبات ومنها يوم الدبس الذي يجمع عشرات آلاف اللبنانيين في كل عام وسوق المقايضة، اضافة الى تمركز سوق الصاغة فيه.
في راشيا أربع كنائس هي كنيسة القديس نيقولاوس للروم الأرثوذكس، كنيسة السيدة للروم الأرثوذكس، كنيسة السيدة للروم الكاثوليك 1883 م. أما أقدم الكنائس في راشيا فهي كنيسة القديس ” مارموسى الحبشي ” لطائفة السريان الكاثوليك وتعد من أقدم الكنائس التي شيدت في المنطقة وأبعدها تاريخا كونها تؤرخ للحقبة الزمنية التي تواجد فيها ابناء الطائفة السريانية في لبنان بعد توافدهم في القرن السابع عشر من منطقة الجزيرة في سوريا ومن العراق وبلاد الاناضول وكيليكيا ومن أورقا ومرغش وديار بكر.
وإلى جانب قيمتها التاريخية والفنية ، فإن هذه الكنيسة تمتلك وتحفظ أيقونة شفيعها القديس مار موسى الحبشي النادرة الوجود ، والتي يعود تاريخها إلى أكثر من خمسمائة سنة ولا يوجد مثيل لها إلا في دير راهبات مار يعقوب ودير مار جرجس الحرف . ومار موسى الحبشي كان من أشهر الواعظين في مصر ويطلق اسمه فقط على هذه الكنيسة في راشيا وعلى كنيسة أخرى في الشمال اللبناني وكنيسة ثالثة في اللاذقية في سوريا ملاصقة لكنيسة مار نقولا وهي صغيرة الحجم
بالاضافة إلى هذه المعالم الأثرية والسياحية نجد معالم أثرية رومانية متناثرة في منطقة الفاقعة ( خربة ابو حديدي) وقصر الشميس ونواويس حجرية محفورة في الصخور وبقايا مطاحن كانت تعمل على المياه اضافة الى بقايا المدرسة الروسية.
بيوت القرميد
وأكثر ما يظهر التراث العمراني في راشيا الوادي في بيوتها القديمة المبنية بالحجر والمسقوفة بالقرميد الأحمر، فالبلدة ما زالت تحافظ على شكلها التراثي الجميل وبيوتها القرميدية السطح تزيد على الثلاثماية منزل لبعضها علية اضافية تدعى ” طيارة ” ولواجهتها الرئيسية أشكال هندسية مميزة بالقناطر الحجرية . أما لجهة الشكل الخارجي للمنازل القرميدية فهي مربعة بصورة عامة ، يعلو مدخل المنزل عند بابه “عتبة كبيرة” فوقها قنطرة نصف دائرية محاطة بدائرتين على اليمين والشمال من الباب الرئيسي المحاط بنافذتين عن يمينه وشماله ايضا. ويطل من المنازل شرفات معلقة على نوعين الأولى على طريقة “المندليون” أي ان ركيزة الشرفة من الحجر والثانية معلقة على جسر حديدي سماكته 20 *30 سم وهذه الشرفات مزينة بدرابزين حديدية واقية على شكل نبال تنتهي كل نبلة بزهرة اللوتس او بقنطرة على شكل كوفي.
اما التوزيع الداخلي للمنزل فهو حول صالون كبير يسمى “اللوان” ويتفرع منه أربع غرف أو ست غرف وأحيانا ثماني ، وتسمى كل غرفة “مربع” ومن مميزات هذه المنازل إرتفاعها الذي يصل إلى أربعة أمتار ونصف، وهي غالبا محاطة بحديقة مجاورة لها”.