خاص كيان 24
على ربوة تفيض نوراً وبهاء، ووسط مرتفع يزهو بجمال مكان لا يشبهه أي مكان، حيث للصوت معنى التقى والايمان، وللصدى عمق الخشوع والطهر، تنتصب خلوات البياضة بوداعتها ونقائها البلوري السماوي عند الطرف الجنوبي لبلدة حاصبيا، مطلة على الحرمون ومرتفعات جبل الشيخ، شيخ الجبال المقدسة، وجبالِ الجليلِ الأعلى في أراضي فلسطين التاريخية، تسورها أشجار الزيتون برمزيتها العظيمة، خصوصا ان غالبية الاهالي اعتمدوا زراعتها منذ زمن، لتشكّل بما تكتنزه من قيم روحية ودينية وايمانية المرجعية العليا لطائفة الموحدين الدروز، ليس في لبنان فحسب، بل أيضا في فلسطين وسوريا والاردن والدروز في معظم انحاء العالم. وتتعاضد معها وتتناغم مجموعة خلوات في قرى القضاء مخصصة للعبادة والصلاة وطاعة الله والنسك، وملقى لشيوخ التوحيد والايمان وللعمائم البيضاء، وكبار المشايخ، لكنها ايضا تحتضن في باحاتها الخارجية وفي أفيائها الداخلية زيارات المؤمنين من مشايخ وغير مشايخ ومن عائلات تقصدها للتبارك والخشوع والتأمل.
ارتقاء عرفاني
يرتبط تاريخ خلوات البياضة بالمؤسس الأول لهذه الخلوات الشيخ المرحوم سيف الدين شعيب، منذ ما قبل الاربعمائة عام، ليكمل مسيرة البناء من بعده المرحوم الشيخ جمال الدين الحمرا، إذ اتسعت مساحة استملاك الاراضي والعمران في محيط الخلوات ليتسنى لها أن تحتضن جموع المشايخ والمؤمنين في المناسبات الدينية، فصدر قرار جمهوري في العام 2003 يحمل الرقم 9525 يمنع بموجبه البناء في محيط الخلوات ضمن دائرة لا يقل قطرها عن اللف متر.
تتفرد خلوات البياضة بوصفها مكانا للارتقاء بالمسلك العرفاني والتوحيدي الى مراتب عليا في المعرفة اليقينية التي يصل إليها من يشع في ذاته نور الحق ونور النور المتأتي من الصفاء الروحي في عروجه نحو التوحيد عبر مسار تأملي زهدي ومعرفي.
وتستقبل خلوات البياضة المؤمنين من العباد والزهاد والنساك بصمت وتواضع وحرص في ممارسة الشعائر الدينية وفي مسلك الارتقاء لتحصيل العلوم والمعارف الدينية، إذ لخلوات البياضة دور كبير في تعزيز الثقافة الدينية والتوجيه والارشاد والنأي عن الدور التبشيري، وبالتالي الحث على تعميم ثقافة التسامح والمحبة ونشر القيم الاخلاقية والفضائل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفعل الخير ومساعدة المحتاجين واغاثتهم، وغيرها من منظومة القيم الاخلاقية التي يكتنزها الموحد من ريادة.
ويشير الشيخ فندي جمال الدين شجاع الى ان خلوات البياضة مقصد للزوار من مختلف المذاهب والطوائف والمؤسسات الاجتماعية والمدنية والاهلية من كافة المناطق يؤمونها بهدف التبارك والتعرف على العادات والتقاليد والمناهج المتبعة حيث ان السلوك الادبي والديني والارتقاء المعرفي هو الأساس في النشاط الخلواتي كما ان الصلاة في الخلوات تقام في مواعيدها ويشارك فيها الحاضرون من ابناء الطائفة الدرزية فقط ومن الذين استوفوا شروطا معينة تؤهلهم القيام بهذه الفرائض التي لا يمكن ولا يجوز التفريط بها.
وعن علاقة خلوات البياضة بقانون تنظيم الاوقاف والقضاء المذهبي الدرزي في لبنان، يشير الشيخ شجاع الى ان هذا القانون استثنى منذ صدوره في العام 1962 خلوات البياضة من احكامه، والعلاقة مع مشيخة العقل علاقة معنوية بحيث لم يكن لها قديما وحاضرا اية سلطة مادية بل يقتصر الامر على علاقة معنوية محكومة بالاحترام والتقدير المتبادلين.
دور وطني
تاريخيا كان لمشايخ خلوات البياضة الدور الكبير في تعزيز اللحمة الوطنية والالفة وحماية السلم الاهلي، خاصة خلال الاحداث التي عصفت بلبنان والمنطقة، ويقول الشيخ شجاع ان مشايخ خلوات البياضة يعتبرون ان السلم الاهلي والعيش المشترك ومصالحة الجبل التي رعاها البطريرك السابق نصرالله صفير ورئيس اللقاء الديمقراطي النائب وليد جنبلاط هي من المسلمات الرئيسية التي لا يجوز الانتقاص منها او الافتتات، عليها وهي من الثوابت الاخلاقية والوطنية والاجتماعية والدينية لطائفة الموحدين الدروز.
وكان لخلوات البياضة مواقف مشرفة في كثير من المحطات الوطنية والقومية، فتصدوا للاتراك ورفضوا السخرة والخدمة الالزامية، كما شارك مشايخ من خلوات البياضة في قيادة الثورة السورية الكبرى ضد الاستعمار الفرنسي، وعندما احتل قائد الحملة الفرنسية انذاك الكولونيل – كليمان غرانكور – بلدة حاصبيا اقدم على جرف خلوات البياضة انتقاما.
وإبان الاحتلال الاسرائيلي لحاصبيا والجنوب في مطلع الثمينينات واجه مشايخ حاصبيا والبياضة الاحتلال، وكان الشيخ شجاع سباقا في اصدار حرمه الشهير على كل من يقتل اثناء خدمته مع الاسرائيليين او جيش العميل انطوان لحد بحيث لا يجوز صلاته. كما ان اهالي حاصبيا ومنطقتها احتضنوا الثورة الفلسطينية منذ انطلاقتها وصمدوا بوجه الاعتداءات الاسرائيلية وسقط لهم العشرات من الشهداء والجرحى.
بناء متواضع
ومجلس خلوات البياضة الحالي عبارة عن بناء متواضع مربع الشكل على قدر كبير من البساطة، وتبلغ مساحته 700 مترا مربعا. بُني في المرة الأولى أواخر القرن السابع عشر، ثم جُدّد بناؤه منتصف القرن التاسع عشر. القسم الأكبر منه مجلس للعبادة يتّسع لنحو 500 متعبّدا، يتصل من الجهة الجنوبية الغربية بقاعة متوسطة الحجم مخصّصة لاجتماع النساء في أثناء الصلاة، ويفصل بينهما جدار سميك يتخلله بعض الفتحات الصغيرة. أروقته المحيطة به تظللها القناطر العربية الطراز. أما فرشه فمن السجاد والبسط وبعض الأغطية الصوفية. تبلغ الفسحات المحيطة به نحو ألفي متر مربع تتوسط الجهة الجنوبية منها دائرة من الحجر المنحوت يتجاوز قطرها العشرة أمتار، تُستعمل للجلوس والمذاكرة عند الغروب. ومن الخلوات في البيّاضة ما هو ذُرّي لعائلات، ومنها ما خُصّص للمناطق مثل خلوات جبل العرب في سوريا، وخلوات فلسطين التي شيّدت منذ ما يزيد على 170 سنة، وخلوة جبل لبنان.