على أنقاض قلعة رومانية في بلدة المختارة الشوفية، شيّد علي جنبلاط قصر المختارة في عام 1712 ومنذ ذلك التاريخ تحوّلت البلدة الشوفية الصغيرة إلى واحدة من مواقع القرار في تاريخ لبنان.
ففي مرحلة كان الشيخ بشير جنبلاط الحاكم الثاني للجبل بعد الأمير بشير الشهابي، وظل في ايام السلطنة العثمانية أحد صانعي الموقف اللبناني، أظهر شجاعة ووطنية في تصديه لهجمات انكشارية الجزار، وعندما انتصر عليهم أطلق عليه لقب “الزعيم الأوحد”. ثم اخذت الألقاب تتوالى عليه، فمن لقب شيخ المشايخ إلى لقب عمود السماء إلى مازاران عصره – نسبة إلى أحد كبار السياسيين الفرنسيين.
في عهده هاجم نابليون مدينة عكا وحاول يائسا الاستيلاء عليها، وعندما استنجد بالشيخ الجنبلاطي، رفض هذا تقديم العون له، وعندما علم الأميرال سميث قائد الأسطول الانجليزي بالأمر ابدى رغبة في التعرف على الشيخ الجنبلاطي.
وقد استطاعت الليدي ستنهول إقناع الأميرال سميث بزيارة قصر المختارة احتراما لمكانة الشيخ بشير من جهة وللطائفة التي يمثل من جهة ثانية. إذ كانت هذه الأميرة البريطانية على معرفة تامة بقوة العائلات الجنبلاطية، ومدى تأثيرها على سياسة الجبل، لذلك تجشّمت المشاق، ورافقت الأميرال إلى قصر المختارة.
وعندما وقع الخلاف في الجبل بين الأمير بشير الشهابي والشيخ بشير جنبلاط تطوع أحد كبار رجال الدين الكاثوليك لإعادة الوئام بين الصديقين القديمين. لكن الأمور تطورت إلى معركة طاحنة بين انصار البشيريْن وسقط قصر المختارة بيد اتباع الأمير الشهابي فصادر موجوداته ثم هدمه وهدم القرية بأسرها، كما هدم الجامع الذي بناه الشيخ الجنبلاطي ولم تسلم قصور الجنبلاطيين في بعذران وعين قني من التهديم.
وعندما قُسّم لبنان إلى قائمقاميتين، استعادت المختارة موقعها وأعيد بناء القصر الجنبلاطي من جديد لكن عودة الزعامة إلى بيت جنبلاط تأخرت ويؤثر عن البيت الجنبلاطي أنه لم يساهم في احداث 1860 الطائفية وأن سعيد جنبلاط وفر الحماية للمسيحيين داخل قصر المختارة وظل يدعو للوئام والسلام.
وفي مرحلة ثانية اتخذت الست نظيرة جنبلاط والدة الشهيد كمال جنبلاط من قصر المختارة مقرا لها، وحملت الانتداب الفرنسي على الاعتراف بزعامتها للبيت الجنبلاطي إثر اغتيال زوجها والعودة إليها كلما فكر الحاكم الفرنسي باتخاذ قرارات تخصّ جبل لبنان او الطائفة الدرزية .
ولا تزال صورة الست نظيرة معلقة في صدر الصالون الرئيسي للقصر، بزيها الشعبي كما لا تزال الغرفة التي كانت تتخذها مكانا للاجتماعات موضع عناية حفيدها.
وظلت الست نظيرة سيدة لقصر المختارة إلى أن تسلم كمال جنبلاط الزعامة، وورث القصر وأمجاد البيت الجنبلاطي، ومنذ ذلك التاريخ وقصر المختارة يتألق من تاريخ لبنان الحديث والواضح أن بصمات الشهيد كمال جنبلاط تبدو طاغية على كل ما في القصر، وما حوله فالصور التي تتبوّأ الجدران في معظمها تعود له، ولرحلاته ولقاءاته بكبار السياسيين المحليين والعرب والعالميين.
والتحف النادرة التي تزيّن الغرف كلها تلقاها جنبلاط الشهيد من اصدقائه الكبار.
أما السيف المعلق على المدخل فيبدو أنه ما يزال أحد متروكات الشيخ بشير.
وفي الغرفة الخاصة التي كان يكتب فيها الشهيد جنبلاط، او يمارس فيها رياضة اليوغا الهندية ما يزال كرسيه الهزاز مع صور لحكماء هنود، إلى جانب أرشيف ضخم من المراسلات السياسية والاقتصادية لزعماء جبل لبنان خلال ثلاثة قرون. كلها ما تزال محفوظة بخطوط أصحابها بعد أن أخذت عنها مديرية الآثار اللبنانية صورا واحتفظت بها.
ورغم أن قصر المختارة تعرض للتهديم أكثر من مرة إلا أن إعادة بنائه كانت تراعي دائما هندسته القديمة واحترام الفن المعماري الذي أنشئ على أساسه. فمظهره الخارجي يدل دلالة واضحة على انه اشترك في بنائه وبناء اسواره وأبراجه رجال متعاقبون منذ أيام الجد الأول جنبلاط إلى الزعيم الحالي وليد جنبلاط.
لكن ظروف الحرب اللبنانية والاجتياح الإسرائيلي وحرب الجبل حرمت وليد جنبلاط من الاستقرار طويلا في القصر… وقد عاد إليه بعد إجراء الترميمات التصليحات عليه، حيث تدل مظاهر القسم الشمالي من القصر على تناسق في البناء وعلى انتماء إلى العصر الحاضر… والعناية التي بذلت في إعادة الترميم واضحة للناظر وقد أشرفت السيدة مي أرسلان جنبلاط (وهي ابنة الأمير شكيب أرسلان) على تجهيز القصر التاريخي، وكان لوليد جنبلاط بصمة معامرية رائعة في أعمال الترميم الاخيرة التي شهدها القصر.
ومن الوثائق المحفوظة في القصر: رسالة من قداسة البابا اكلمنص الثالث عشر إلى الشيخ علي جنبلاط يدعوه فيها إلى حل خلافات شخصية بين كبار رجال الأكليروس المسيحي وإعادة الوئام إليهم.