سيّدنا الشّيخ عليّ فارس، رضي الله عنه، وُلد في قرية يركا الجليليّة في فلسطين بين العامَيْن 1703 و1707. والدَاه كانا فقيرين، حيث كان والده جنديًّا في قلعة جدّين، التابعة لجيش ظاهر العمر، والذي كان واليًا لمقاطعة صفد بأمر من بشير باشا، والي دمشق. أمّا خاله، فكان الشّيخ الجليل أبو ماضي حسن، رحمه الله، وهو من سكان قرية يركا أيضًا.
طفولته الصعبة
في سنّ صغيرة جدًا، توفّت والدته، وكان ذلك وقتًا تحت السنة من عمره. وكان لديه أخت واحدة تكبره سنًّا. بعد وفاة والدته، تزوّج والده امرأة لم تعاملهما معاملة حسنة، مما جعل حياتهما صعبة ومريرة. لم يجدا الدعم الكافي والرعاية اللتين يحتاجانهما، ولم يجدا هدوءًا في حياتهما بسبب تلك العلاقة الصعبة مع زوجة والده.
مع مرور الزمن، نمت وكبرت أخته وارتبطت بالزواج، تاركة الشيخ علي وحيدًا بلا شقيقة. استمرت زوجة والده في معاملتها القاسية تجاهه. وعلى الرغم من طفولته الصعبة، تحمل الشيخ علي محبة وصبرًا شديدين، وتركز على التحمل بكرامة وعزة.
هناك من يعتقد أن تصاعد معاملة زوجة والده القاسية دفعه إلى مغادرة قريته إلى قرية جولس المجاورة ليفتح صفحة جديدة في حياته. وعاش مع عائلة طريف، التي اشتهرت بالتديّن والورع والتفاني في خدمة الله. منذ نعومة أظفاره، بدأ يتجلى في الشيخ علي علامات واضحة للتديّن والصلاح والخير، حيث كبر وترعرع في هذا البيئة الدينية والملهمة.
تفرّغه للمعرفة والتعليم
الشيخ عليّ انغمس في رحاب المعرفة والتعليم، حيث بذل جهداً جبارًا ليتعلم فنون القراءة والكتابة. هدفه الرئيسي كان الكشف عن أسرار الحكمة وأسس الدين وأصول الشرح. مع مرور الزمن، تألقت قدراته الفكرية وزادت إيمانه بالله وتقواه.
عندما واجه صعوبة في فهم وكتابة الشعر، لجأ إلى مدينة دمشق في الشام عدة مرات، بهدف دراسة أصول النحو ومبادئ الصرف ليمكنه من فهم وتأليف الشعر بشكل أفضل. بفضل هذا الجهد والاجتهاد، نجح في تأليف ديوان شعر رائع يعكس موهبته الشعرية ومعرفته اللغوية.
انتماؤه لعائلة طريف
سيّدنا الشّيخ عليّ كان يتردّد بشغف على قرية جولس، حيث عائلة الشيخ أبو صالح سلمان طريف، رحمه الله، التي كان يشعر بالانتماء إليها. عندما زارهم لأول مرة وهو في سنّ العاشرة تقريبًا، لم يكن يعلم بعد بجميع تفاصيل الحياة والعلم. لكنه بقي ملتزمًا بحضور مجالسهم الموقرة، يستمع بتركيز إلى تلاوة الذِّكر الحكيم ويلتقط مواعظ الشّيوخ الأكبر سنًا.
يُروى أنه في إحدى المرات، وتحديدًا في ليلة عيد الأضحى المبارك، قُدّمت له “المجراويّة”، وهي موعظة من تأليف المرحوم الشّيخ أبي صالح سلمان طريف. تأثّر بشدة بهذه الموعظة وبدأ يسأل عن المؤلف ويعرف عنه. بدأ بالتحدث والمناقشة بشكل شعري وألقى قصيدة تُعرف اليوم بـ “النّفسيّة”، وكانت تستند إلى اللهجة العامّيّة بما أنه كان لا يزال في سنّ صغيرة.
الشّيخ عليّ كان يتردّد على عائلة طريف في قرية جولس بانتظام. وفي خلال رحلته إلى هناك، كان يتوقف لقضاء وقتٍ قليل بالقرب من صخرة توفّر له الظل ليأخذ استراحة ويؤدي صلاته. بعد رحيله، بقيت هذه الصّخرة مكانًا مقدسًا يعبده المارّة من أبناء الدّين والحياة، حتى تم نقلها من مكانها الأصلي.
الشّيخ عليّ فارس يُعتبر ثالث شخصية دينية بارزة بعد الأمير السّيّد والشّيخ الفاضل منذ إغلاق باب الدّعوة حتّى اليوم. يحظى بشهرة واسعة بين شيوخ مسلك التّوحيد نظرًا لعلمه العميق وتقديره للورع والزّهد والعلم.
تعبّده في مغارة وادي السّماك
بمجرد مغادرته منزل والده، اعتزل الشيخ علي فارس العالم الخارجي واستوطن في مغارة تواجدت في أعالي سفح جبل وادي السماك العمودي. تمتاز المغارة بعمق يبلغ حوالي أربعة أمتار وعرض ضيق لا يكفي لمضطجع إمتداد رجليه فيه. وصوله إلى هذه المغارة كان تحديًا شاقًا يتطلب صبرًا كبيرًا وقدرة على تحمل الصعاب.
في هذا المكان البسيط، شعر الشيخ علي بشوق شديد إلى القرب من الله تعالى. انخرط بكل تفانٍ في الصلاة والعبادة، وهنا وجد السكينة والهدوء الذي كان يبحث عنه.
لطالما استمر سيّدنا الشّيخ عليّ في التعبد داخل المغارة المشهورة، وكانت عائلة طريف، وتحديدا الشّيخ محمّد ابن الشّيخ حسن طريف، تأتي لزيارته في مكان عبادته وتقديم الماء والزّاد له. بعد مرور بعض الوقت، أدرك الشّيخ عليّ أنه يجب على الشّيخ محمّد أن يتحمّل عبء جلب الماء، ممّا يتسبب في تعبه وفقدان وقته. لذا قسم عليه ألا يقبل بأن يُزود بأي ماء بعد ذلك.
المعجزة في المغارة: ماء من رحم الثقة بالله
رد الشّيخ محمّد على هذا القسم قائلاً: “من أين تشرب وأنت داخل تلك المغارة؟”، فأجاب الشّيخ عليّ قائلاً: “الله تعالى يُنعم علينا بتوفير الماء”، وهكذا كان الواقع. إذ استجاب الله تعالى لدعائه، فبدأ سقف المغارة يتساقط منه الماء العذب، ممّا أتاح للشّيخ عليّ شرب الماء والاستمتاع بالراحة والانتعاش
العبادة المخلصة: زهد الشيخ علي وسعيه للرضا الإلهي
كانت العبادة بالنسبة للشيخ علي فارس ليست مجرد واجب ديني بل كانت عملاً مُشتاقاً إليه وفريضة يؤديها بكل اخلاص. زهد في الدنيا وتنازل عن متعها لوجه الله تعالى، ولم يكن يسعى خلف الراحة الشخصية. بل كان همه الأول تطوير المجالس والأنشطة الدينية بإرشاداته وأمثلته العبادية.
قام الشيخ علي بتصحيح وتصويب العلاقات المنقطعة بين الناس ودروب الخير والعبادة. لتحقيق هذا الهدف، ابتكر وسائل عديدة للسهر في الليل من أجل العبادة. أحد هذه الوسائل كانت تعليق “الخطافة” في سقف بيته، حيث تم تعليق حبل رفيع يصل إلى الأرض. ع وكان عندما يشعر بالنّعاس يربط هذا الحبل في عنقه، فإذا انحنى يمينًا أو شمالًا أو إلى الخلف يشدّه الحبل فيصحو من جديد.
عبّر الشّيخ عليّ عن حالته في قصائد كثيرة، منها قوله وكأنّه يصِف نفسه:
“قوم رَضوا بِيَسير من ملابسهم والقوت لا تخطر الدّنيا بهاجسهم
صدورهم خاليات من وَساوسِهم أسرارهم ناقيات ما بها دَغَل
هجروا المنازلَ والدُّنيا وزينتَها ومزّقوا ثوبَ زُهرتِها وبهجتِها
ولا أرادوا سناها بل ونزهتها ولا استمالهُم حليّ ولا حلل
لبسوا ثياب التُّقى يا حسن ملبسهم وداوموا الذِّكْر إجهارًا بجلسهم
غابوا عن الكون بل عن ذات أنفسهم إذ قد تجلّى لهم محبوبهم ذُهلوا
عودته الى جولس
حث الشيخ حسن طريف وأبناؤه، محمد، سلمان، وطريف، الشيخ علي فارس على زيارة منزلهم في جولس، بعدما توجهوا إلى المغارة لطلب موافقته على عودتهم إلى جولس والعيش في منزلهم. وقد أبلغهم الشيخ علي أنه قرر البقاء في المغارة لمدة ستة وأربعين يومًا، متوجهاً بهذا القرار نحو طائر الأبابيل في المغارة. بعد أن قبل الشيخ هذا الاقتراح، انتقل إلى جولس.
وبعد مضي ثلاثة أيام في جولس، قاموا بمرافقته إلى منزله في قرية يركا، ومن هناك بدأت العلاقة تنمو وتتوطد بين عائلة طريف وسيّدنا الشيخ علي فارس.
والد الشيخ علي فارس كان يشغل وظيفة جندي في قلعة جدّين، حيث كان يخدم تحت قيادة الضابط عمر الزيدانيّ، وقد كان يتحدث بفخر عن تقوى وزهد ابنه وعن الكرامات التي حققها. هذا الحديث عن الابن أثر بشكل كبير على إعجاب الجنود والضابط المسؤول، وأثار فضول الأخير لمقابلة الشيخ عليّ والتعرف عليه بشكل أفضل.
في إحدى المناسبات، قرر الضابط أن يزور منزل الشيخ حسن طريف برفقة والد الشيخ عليّ بهدف مقابلته. لهذا الغرض، أُرسل رسول لدعوة الشيخ عليّ للقاء الضابط ووالد الشيخ حسن طريف. وصل الرسول إلى خارج البلدة للعثور على الشيخ عليّ، إذ لم يكن في المنزل في ذلك الوقت.
لكن عندما وصل الرسول إليه وقدّم دعوة لمقابلة الضابط ووالد الشيخ حسن طريف، رفض الشيخ عليّ بلباقة واحترام قائلاً: “اعتذر بِاسمي منهما”، ورفض اللقاء. بدلاً من ذلك، فضل الشيخ عليّ أن يعيش في عزلة وقرب من الله تعالى، بعيدًا عن الحكام والأمور الدنيوية.
نبذة موسعة عن كتاباته وشعره
الشيخ علي فارس قدم العديد من الأعمال الأدبية والشعرية التي تعكس رؤيته الفريدة وأفكاره العميقة. من بين هذه الأعمال:
- المجراوية “النفسية”: قام الشيخ علي فارس بكتابة هذه القصيدة بلغة تميل إلى العامية أكثر من الفصحى. تعتبر هذه القصيدة مميزة حيث تتناول موضوع النفس والتأمل الداخلي. تتألف القصيدة من مئة وتسعة وعشرين بيتًا.
- تأثر بابن عربي: يعكس أسلوب الشيخ علي فارس تأثره بأعمال الشاعر والفيلسوف الصوفي ابن عربي. ربما كان له معرفة بآثاره وفكره العميق، سواء من خلال قراءاته الشخصية أو من خلال التعليم والمعرفة التي اكتسبها في دمشق.
- الزهد: كتب الشيخ علي فارس قصائد عديدة حول موضوع الزهد، وهو التوجه نحو الاعتزاز بالتقشف والاقتناع بالقليل. يركز في هذه القصائد على التواضع والخجل أمام الله.
- الإنسان الكامل: ألهمت الشيخ علي فارس قصيدة بعنوان “الإنسان الكامل” أو “العقل الأول”. تتعامل هذه القصيدة مع مفهوم الإنسان المتميز والكامل من خلال رؤيته الفريدة للعالم.
- العقل النور: قدم الشيخ علي فارس قصيدة منظومة تمزج بين اللغة الفصحى والعامية، تتناول موضوع العقل النور الذي تجسد في شخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
تظهر كتابات الشيخ علي فارس تفرده وروحه الفلسفية والصوفية في التعبير عن أفكاره ومشاعره
وفاته رضي الله عنه
في ليلة الجمعة من اليوم الرّابع عشر من شهر رمضان عام 1167 للهجرة وافت المنيّة الشّيخ عليّ فارس، رضي الله عنه، بينما كان يؤدّي الصّلاة مع جموع المصلّين من إخوانه في خلوة البلدة الّتي عاش فيها. فتوفّاه الله ساجدًا لربّه. وكان لوفاة الشّيخ الجليل وقْع أليم على النّاس وعلى عائلة طريف، فتقاطرت الوفود لحضور مأتمه وتوديع جثمانه الطّاهر، ورثاه الشّيوخ بأحسن المرثيّات نثرًا ونظمًا. ودُفن جثمانه في قرية جولس، قُرب القبّة الّتي تعبد فيها، وهي الآن مزار يؤمّه الموحّدون قاصدين التّبرّك