البحثُ في الصومِ ليسَ بالعملِ الجديد، فالدارسون والمتبحرون في العلم والنقاد والأطباء من قدماء ومحدثين تناولوا الصوم وفق مفاهيم وقراءات متعددة. ففي القرن الخامس عشر استخدم “لودفينو كورنا” الصيام في معالجة الكثير من الأمراض العصية على العلاج المتوافر آنذاك، فطّبقَ طريقته في الصيام على نفسه، وعاش ما يقارب مئة سنة وبصحة جيدة، وألّف في أيامه الأخيرة رسائل في المعالجة بالصوم تحت شعار ” من يأكل قليلاً يعمر طويلاً”.
وفي القرن العشرين ظهرت الكتب الطبية في أمريكا وأوروبا، يتحدث مؤلفوها عن فوائد الصوم الطبي مثل كتاب “التداوي بالصوم” لهربرت شلتون، وكتاب”الصوم الطبي، النظام الغذائي الأمثل “لآلان كوت، و”الصوم إكسير الحياة”، لهنرك تانر، و”العودة إلى الحياة السليمة بالصوم الطبي” للدكتور الالماني هيلموت لوتزنر. وفي عام 1941، صدر كتاب بوخنجر”المعالجة بالصوم كطريقة بيولوجية” شرح فيه كيفية استخدام الصوم لمعالجة الكثير من الأمراض المستعصية. ولكن أوضح وأبلغ عبارة قيلت في الصيام جاءت في الحديث الشريف “صوموا تصحوا “، فهل اكتشف العلم الحديث السر في قوله تعالى: “وأن تصوموا خير لكم”؟
لم يكن مفهوم الفيلسوف كمال جنبلاط للإنسان مفهوماً مادياً أو عادياً مبسَّطاً، بقدر ما كان مفهوماً مرتبطاً بعلاقة جدليّة بسرّ هذا الكون وخَلقه، وعليه، لا بدّ من التعمّق في هذا المفهوم لمعرفة كلّ ما يحيط بتصرّفات الإنسان والأهداف منها، ويدخل في ذلك أيّ عملٍ يُقدم عليه، أو سلوكٍ يتّبعه، كالصّوم أو غيره.
لقد حدّثنا المعلم كمال جنبلاط عن الصومِ والغذاءِ وأنواعِ الطّعام، وطريقة تناولها، وحاجات الجسم، وغيرها من الأمور التي دلّنا من خلالها على تلك العلاقة الجدليّة بين الغذاء الصّحيح والصحّي، وبين سلوك الإنسان، فرأى في الصّوم وسيلة لتزكية النّفوس وتربية الشخصيّة وإعدادها إعداداً كاملاً بكلّ جوانبها المختلفة، الماديّة والمعنويّة والعقليّة والروحيّة والنفسيّة والعاطفيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، وقوله الشهير :”الصّيام هو حمّام الجسد الدّاخلي، ويضفي على العقل والحواس الصّفاء والتجرّد “.
وعدَّ كمال جنبلاط الصّوم بحدّ ذاته مظهراً من مظاهر نواميس الطّبيعة الداخليّة للإنسان وتركيبةِ جسمهِ، حيثُ إنَّ التّغذية الداخليّة المنضبطة وطرح الفضلات والسّموم تُعطي أعضاء الجسد فرصة للتجدّد. وللصّوم عنده، تأثيراته الروحانية في الإنسان، ويعود ذلك إلى أن الصوم ينشط المادة الرمادية في الدماغ بعد أن ينظَفها من السمومِ التي تشكل عائقاً خفياً يعرقل وظائف الدماغ، فكثيراً ما يذكر المؤمنون في حديثهم بأن الصوم تربية للشخصيّة وتهذيب للشّهوات الجسديّة وتعديل للسّلوك البشري، وهكذا، نرى في نظرة المعلم كمال جنبلاط الفلسفيّة الرّوحانيّة للإنسان، وتحليله الشُّمولي لجسم الإنسان، دعوة صريحة وضروريّة إلى الحياة بمعناها الكامل، وكأنّه بكلامه هذا، يقول لنا استعينوا بطبيبكم الدّاخلي الشّافي..أي تداووا بالصوم..أليس الصّوم الطّريقة الأجدى لهذه الصّيانة؟.
مما لا شكَّ فيه أن نمطَ الحياة المعاصرة قد قضت على الكثير من الجوانب الأساسية المتعلقة بصحتنا الجسدية والنفسية على حد سواء، إذ بسبب الفوضى الغذائية وسوء التنظيم وقلة الحركة والتوتر وكثرة مصادر الانفعال، ازدادت نسبةُ الأمراضِ المزمنةِ التي باتت أشد فتكاً بالإنسان من غيرها كأمراضِ القلبِ والأوعيةِ الدمويةِ والسرطانِ وأمراضِ الروماتيزم والبدانة وارتفاع ضغط الدم والسكري والكولسترول وغير ذلك من الأمراض التي تهدد صحة الفرد والمجتمع على حد سواء.
وانطلاقاً من ذلك، تناولَ المعلمُ كمال جنبلاط الإنسان، فتوجّه إليه وانطلق عبره ، فكان هدفه ومحور كتاباته، الإنسان كإنسان، هو ” كلٌّ لا ينفصلُ جسدهُ وحواسهُ عن فكرهِ “، لذلك رأى أنّ للطعام والشراب أثراً بالغاً في تكوين النفس البشريّة الملتزمة بتأثّرها في الأعصاب، محذراً من أغذية الحضارة، الناتجة عن أنماط الحياة الحديثة، لذا دعا إلى وجوب انسجام الإنسان مع الطبيعة، والعودة إلى الغذاء الطبيعي، لأنه جزء لا يتجزّأ من شرعتها وسننها.
وفي مدرسةِ الصّوم، ربطَ كمال جنبلاط بين الصّومِ والعمليّةِ النّاجعة التي تؤدّي إلى تطهير الخلايا وتنظيم أقنيتها المجهريّة ومحتواها، والمحافظة على صحّة البدن للشّفاء من الأمراض. وبالتالي تجديد وتنشيط الطّاقة الحيّة في جميع أعضاء الجسد، والحفاظ عليه في سنّ الشّباب ما أمكن، وتأخير شيخوختة .
من هنا خصَّصَ الفيلسوف كمال جنبلاط باباً في كتابه الشّهير “أدب الحياة”، تحت عنوان “أدب الصّيام”، أوضح فيه ” أنّ الصّيام في معناه الحقيقيّ هو أدبُ الحياة، أدبُ كلّ حياة، ففي صيام الفكر سعادة الجنان، وفي صيام الجسد صحّة الجسد. والصّيام في المعنى النفسيّ والخلقيّ والإيجابيّ ـ أي في القصد الوجوديّ ـ هو أن لا نتعلّق بشيء، أن لا تشدّنا رحى علائق الفكر والحواس، فنصبح كمن يحمل فعلاً وواقعاً الدّنيا كلّها على ظهره “، متفقاً مع الإمام الغزالي بقوله: ” الصيام زكاة النفس ورياضة الجسم، فهو للإنسان وقاية، وللجماعة صيانة، وفي جوعِ الجسم صفاءُ القلب وإنفاذ البصيرة، لأن الشبعَ يورثُ البلادة ويُعمي القلبَ ويكثر الشجار فيتبلد الذهن، أحيوا قلوبكم بقلة الضحك وقلة الشبع وطهروها بالجوع تصفو وترق”.
وتحدث كمال جنبلاط عن مفهوم أعمقَ للصّوم، من خلال تسليطه الضّوء على العفّة، فقد رأينا كيف أنّ نظرته إلى الصّوم تجلّت بالطّاقة الصحيّة والنفسيّة للإنسان، التي تجعله قادراً على إحداث التّغيير المرغوب في نفسه، من خلال تنميته لشخصيّة الإنسان، وزيادته لقوّة الإرادة فيه، لأنّه يمرّن ويروّض النفس على الصّبر والتحمّل، وينمّي القدرة على التحكّم في الذّات، والتغلّب على الشّهوات، ويساعد على التحلّي بالأخلاق الحميدة .
كتاب “كمال جنبلاط الإنسان والصوم”، كتاب ينقسم إلى أربعة فصول، يحوي كل فصل على أبواب عدة، وفق ما يأتي:
الفصل الأوّل: يعالج الصّوم والإنسان ويحتوي على عشرة أبواب، ويشمل تعريف الصوم والرجوع إلى عادات وتقاليد الأمم والشعوب، والتراث الثقافي والإنساني، والصوم عند مختلف الأديان، والصّوم في الإسلام، والصّوم والزهد عند المسلمين الموحّدين، والصّوم اجتماعيّاً، والصوم عند كمال جنبلاط، والصّوم والصحّة النفسيّة، والعلاج بالصّوم.
الفصل الثّاني: يتناول مفهوم الإنسان عند كمال جنبلاط، وطاقة الإنسان النفسيّة، وفكر الإنسان وارتباطه بالزّمن، وتضحية الإنسان بالأنا، والجسد وعالم الحواس.
الفصلان الثالث والرابع يركزان على غذاء الإنسان وبيئته، والطبيعة والأرض والتربية البدنية عند كمال جنبلاط، والصّوم ونواميس الطّبيعة، ورؤية جنبلاط لأهميّة الصّوم في حياة الإنسان، ومعاملة الجسم، والطّبيب الشّافي، والعفة كقيمة أخلاقية وبالتالي تحرر الإنسان من عبودية الغريزة ونزعات الشهوة ومطالب الجسد.
أما الخاتمة، ففيها أن الصّوم حاجة وضرورة، لنبقى أصحّاء جسديّاً ونفسياً وفكريًّا وروحياً، وضرورة للارتقاء بمعنى وجودنا في هذه الحياة.
وفي الكتاب ملحق خاص تبرز فيه طائفة من أقوال الحكماء والعلماء والفقهاء والأطباء ممن تناولوا الصوم والصيام حتى تكتمل الفائدة، ولائحة بأبرز المصادر والمراجع التي استند إليها هذا الكتاب بشموليته.
المؤلف: الصحافي حسن بحمد