“ينشأُ الائتلافُ البشريُّ في الأصل عن دافعٍ طبيعيٍّ هو الأُسرة”، لذلك اتَّفق الحكماءُ على أنَّ العائلةَ هي “حجرُ الأساسِ الأخلاقيّ للحياةِ البشريَّة إذا ما حقَّقت غايتَها تحتَ حُكم العقل.” وأصلُ معنى الأُسرةِ في اللغة هو “الدِّرعُ الحصينةُ”، فذهبَ القصدُ فيه أيضًا إلى عشيرةِ الرَّجُل، وأهلِ بيته، لأنَّه يتقوَّى بهم. بل وفي الدلالةِ ما هوَ أكثر من ذلك، بحيث يشتملُ المعنى على المِنعةِ التي يجبُ أن يكتسبها الإنسانُ منذ نعومة أظفاره في “كنف عائلته”، أي في ظلِّ عطفها ورعايتِها وحراستِها وحِفظِها، كأنَّه تحت جناحيها يكتملُ ﴿بشرًا سويًّا﴾ (مريم:17) أي أنَّهُ “لا يفقد من حِسان نعوت الآدَميَّة شيئًا”.
وليس أجمل وأكثر كمالا في تحديد أصولِ نشوء “الأُسرة” وماهيَّتها من الآية القرآنيَّة الكريمة التي جاء فيها قولُهُ تعالى ﴿وَمِن آياتِه أن خلقَ لكُم مِن أَنفُسِكُم أزواجًا لِتسكُنُوا إلَيهَا وجَعَلَ بَينَكُم مودَّةً ورَحمَةً إنَّ فِي ذَلكَ لَأَيآتٍ لِقومٍ يتَفكَّرُون﴾ (الروم:21)، أي أنَّ من وجُوه تدبيره الدّالّة على عظمَتِه وكمالِ قدرته أن خلقَ من جِنسكُم في البشريَّة والإنسانيَّة إناثًا يكنَّ لكم قرائن لتميلوا إليها وتألفُوا بهَا. وكانَ من آيات لطائف حِكمته أن جعل آصِرَةَ القربى معقودةً بالمودَّةِ التي هي “الحبّ الكائن في جميع مداخل الخير”، وبالرَّحمةِ التي هي الرِّقَّــة والتعطُّف. ولِعُظم معنى المودَّة أن كان من أسماء الله الحُسنى “الودُود”، أي الـمُحِبّ لعِبادِه، كذلك، لِعظم معنى الرَّحمة أن كان من أسمائه “الرّحمن الرَّحيم”، أي “العَطوف على العِباد بالإيجاد، وبالهِداية إلى الإيمان وأسبابِ السّعادةِ، والإسعادِ في الآخِرةِ، والإنعام بالنّظر إلى وجهِه الكريم” (الغزالي).
إنَّه بهذه “الألفة” القائمة على العطايا الإلهيَّة، والوشائج الرَّبّانيَّة، والتعاطف الطبيعيّ المرتبط بمقاصِد الحِكمة الجليلة للخالِق الوهّاب عزَّ وجلَّ، تُهيّأُ أجواءُ “الكنَف” الأسريّ من حيث هو “بيئة” إنسانيّة حَميمَة غايتُها “الإنجاب”، ووظيفتُها حُسنُ الرِّعاية والتَّربية.