1كتب فارس اشتي في موقع 180post:
تزامنت انتفاضة راشيا (1878) مع انتفاضة أخرى في قرية المطلة أسفل وادي التيم ذات السكن الدرزي وشيخها وقائدها علي الحجار الذي ضاقت السلطة العثمانية ذرعاً به بعد الانتفاضة كما ضاق بوجوده المستوطنون الصهاينة فدبّر الفريقان اغتياله في العام 1895 الأمر الذي آل عملياً إلى استيلاء الحركة الصهيونية على المطلة وتشريد سكانها في قرى المنطقة وحوران.
حدثت الانتفاضتان في كل من راشيا والمطلة في ظروف متشابهة تتمثل بـالآتي:
أولاً؛ الظروف العامة:
أ – محاولة السلطة العثمانية تحديث الدولة على مقياس الدول الأوروبية، وهي محاولة سابقة لهذا التاريخ، إلّا أن جديدها في هذه المرحلة كان تنصيب السلطان عبد الحميد في سنة 1876، واستعانته بنخبة متنورة وجادة في مشروع التحديث، وأبرزهم مدحت باشا، في مقابل استمرار الطاقم القديم من الولاة والإداريين الذين درجوا على نمط الإدارة السابقة مدعومين من بنية اقتصادية واجتماعية تقليدية. والمثل الأبرز لذلك في هذه المرحلة محاولة السلطان والمتنورين في الإدارة تكريس الحكم الدستوري بإقرار الدستور (المشروطية) في سنة 1876، ثم تجميده في السنة التالية. وعبّرت هذه المحاولة عن الصراع بين مشروع تحديث الدولة و”مشروع” الإبقاء على طبيعتها التقليدية، سياسياً وإدارياً واقتصادياً واجتماعياً وعسكرياً، ولكل منهما قواه، فحملت نخب مدينية في إسطنبول ومراكز الولايات همّ تقليد التجربة الرأسمالية في إنتاج السلطة، ولم تكن البُنى الادارية في الدولة تحاكي هذا النزوع، لا بل تصدت له مركزياً ومحلياً، وكان مدحت باشا والياً على الشام.
ب – اشتداد صراع الدول الأوروبية على الدولة العثمانية، وكانت أحداث بلاد الشام ما بين 1831 و1861 خير نموذج؛ إنْ بالتدخل لمواجهة الحملة المصرية أو في الأحداث الطائفية بعدها، وتكرست، رسمياً، في نظام المتصرفية وحكمها الذي تلازم، عربياً، مع احتلال تونس (1881) وفرض الحماية على مصر (1882).
ج – نشاط الحركة الصهيونية في شراء الأراضي في فلسطين وإقامة المستعمرات عليها.
د – إقدام السلطة على التشدد في تطبيق قانون التجنيد الإجباري. هـ – صدور قانون الأراضي (1858) وقانون الطابو (1859) اللذين استُكملا بصدور قانون الجزاء (1867)، و”مجلة الأحكام العدلية” (1868). ولم يُعرف ما إذا حدثت عمليات تلاعب بالقوانين الصادرة في هذه المرحلة، وأهمها قانونا الأراضي والطابو اللذان استهدفا تشجيع الزراعة وحماية حقوق العاملين فيها، خلافاً لما كان سائداً، وذلك على قاعدة الحفاظ على الوضع السابق وشرعنته، فضلاً عن خدمة مصالح المتنفذين الجدد، وقد حدث مثل ذلك في البقاع.
ثانياً؛ الظروف الدرزية:
تزامنت انتفاضة راشيا (1878) ومثلها انتفاضة المطلة مع حالتَي اعتراض واسعتين وعميقتين بين الموحدين الدروز:
الأولى في الشوف ووادي التيم وما بينهما في البقاع وتعود الى الحيف الذي لحق بهم في تسوية العام 1860 وما كبدتهم من إضطهادٍ وتشريدٍ لقادتهم ووجهائهم، ومن خسائر إقتصادية ومالية باهظة إستمرت مفاعليها لفترة طويلة، وتنبئ وثيقة عثمانية في ذاك العام عن تخوف من حادثة بسيطة وقعت في 25 كانون الثاني/يناير 1876 (مشاجرة بين ماروني ودرزي في عبيه جُرح الثاني فهاجم أقارب الجريح مع 200 رجلاً بقيادة شيخين من آل نكد الحي المسيحي وهددوا سكانه بالقتل إلا أن المتصرف رستم باشا سارع لتوقيف الشيخين مع 18 درزياً وتوقيف المعتدي).
الثانية في حوران؛ إذ شهد جبله نزوحاً كثيفاً من دروز الشوف ووادي التيم واقليم البلان وصفد، وبعضهم من المشاركين في أحداث العام 1860، وكان تيار في السلطة العثمانية مدعوماً من السلطة الفرنسية يعمل لملاحقة هؤلاء بذريعة ردّ المسروقات، وكان النازحون بفعل أحداث الستين يجهدون لتأمين لقمة العيش بالتوسع في جوار موطن من سبقهم من أبناء طائفتهم، سكناً في القرى الخْرٍبة وزراعة ورعياً في الأراضي الخصبة، فكان الصدام المتكرر مع من في جوارهم، وتمثل بعيد سنة الإنتفاضتين بقتال بين الدروز وأهالي بصرى الحرير في أيار/مايو – كانون الأول/ديسمبر 1879، وسعي السلطة لردع اعتداءات الدروز مع تفضيلها الحل السلمي بتسليم من بقي حياً من القتلة. وإرتبط بهذين الإعتراضين وعبر عنهما حركة النزوح الكثيفة من الشوف ووادي التيم والجليل الأعلى نحو حوران؛ إنْ هرباً من الإضطهاد، كما في أحداث 1860 وبعدها حين فرضت السلطة العثمانية التجنيد الإجباري وحين قامت بعمليات إعتقال واسعة بعد أحداث 1860 في مناطق راشيا وحاصبيا وإقليم البلان (1860-1862)، أو طلباً للإسترزاق كما حصل إبان التشدد لانتزاع ملكيات الاقطاعيين الدروز في البقاع وما يعنيه من تشريد الفلاحين (1860 -1872)، وفي العام 1867، إبان نقص محصول الحرير وقلة الأراضي الزراعية واضطهاد الموالين للغرضية الجنبلاطية. أونجدة لربعهم، كما في معارك جماعتهم مع السلطة أو الجوار تمثل بالنجدة للمقاتلين الدروز في جبل جوران، كما حصل في أحداث الكرك (1881)، وأحداث السمية وشعارة (1886)، وأحداث مجدل شمس – حوران (1894 – 1896)، وأحداث 1905 وقد كانت التعليمات العثمانية بالتشدد في منعها وإرسال قوى عسكرية الى منافذ طرقها.
ثالثاً؛ الظروف المحلية: انعكست الظروف العامة والدرزية على الظروف المحلية وظهرت في:
أ – اصطدام محاولات فرض تجربة التحديث للإنتاج “الديموقراطي” للسلطة بالإنتاج الزعاماتي التقليدي، وخصوصاً في الأرياف، إذ رافق محاولات تحديث الإدارة، ولا سيما بناء جيش حديث، رفض السكان ذلك، والإصرار على التهرب منه ومواجهته، كما قوبل إصدار قانون الأراضي وقانون الطابو وما استتبعهما، وهما قانونان أريد بهما تمليك الفلاحين وتعزيز الإنتاج، بحركة التفاف من النافذين والملتزمين السابقين للأراضي والتجار والإداريين من جهة، وبثقاقة تقليدية قائمة على الولاء للنافذ – الزعيم من جهة ثانية، وبجهل العامة لمندرجات القانون من جهة ثالثة. وجرت بفعل ذلك عمليات تملّك للأراضي من طرف النافذين والتجار، عبر تحايل على القانونَين أفقد الفلاحين مصادر رزقهم وحوّلهم إلى أجراء، من دون أن يعوا مبكراً مخاطر ما حدث، وقد ذكرنا، آنفاً، مثلا عن ذلك في البقاع.
ب – استهداف حركة الاستيطان الصهيونية المناطق السهلية في فلسطين، والحولة أكثرها سهلية وخصباً، وكانت أولى المستعمرات في طبرية وصفد.
ج – حركة النزوح الكثيفة من الشوف ووادي التيم وإقليم البلان والجليل الأعلى نحو حوران؛ إمّا هرباً من الاضطهاد، كما في أحداث 1860، وحين فرضت السلطة العثمانية التجنيد الإجباري وحين قامت بعمليات اعتقال واسعة بعد أحداث 1860 في راشيا وحاصبيا وإقليم البلان (1860-1862)؛ وإمّا طلباً للاسترزاق مثلما حدث في أثناء التشدد لانتزاع ملكيات الإقطاعيين الدروز في البقاع وما يعنيه من تشريد الفلاحين (1860 – 1872)، وكما وقع في سنة 1867، في إبان نقص محصول الحرير وقلة الأراضي الزراعية واضطهاد الموالين للغرضية الجنبلاطية؛ وإمّا نجدة لربعهم، كما في معارك جماعتهم مع السلطة أو الجوار تمثل في النجدة للمقاتلين الدروز في جبل جوران، مثلما جرى في أحداث الكرك (1881) وأحداث السمية وشعارة (1886، وأحداث مجدل شمس – حوران (1894 – 1896)، وأحداث 1905، وكانت التعليمات العثمانية بالتشدد في منعها وإرسال قوى عسكرية إلى منافذ طرقها. ويتبدى النزوح من قرى الوادي بفعل الملاحقات من جهة والهرب من الخدمة الاجبارية من جهة ثانية ومواجهة الازمات المعيشية من جهة ثالثة وفي استعراض اصول عائلات في الجبل من كل قرى المنطقة، وكان لبعضهم مشاركة فاعلة في عمليات التوسع والقتال، وأبرزهم أحد زعماء الوادي، محمد نصّار، وذويه.
د – الوضع الاقتصادي المتردي، وقد عبّرت لسان الحال عن ذلك في الأعداد المتزامنة مع الانتفاضة، وتمثل التردي في العوز والضنك وارتفاع الأسعاروتفاقم العسر وانتشار الجراد وهلاك الماعز وكثرة الثلوج. ويظهر تقريرللقنصل الفرنسي بتاريخ 7 حزيران/يونيو 1877 ونشره قيس فرو في كتابه تاريخ الدروزخلافاً بين الفلاحين في راشيا حول الأراضي ومصادر المياه. هـ – تردي الوضع الأمني، إذ ذكرت جريدة “لسان الحال” في سنة 1878 العديد من حوادث السلب والتشليح والقتل في كل من: إبل السقي (تموز/يوليو)؛ حاصبيا (حزيران/ يونيو)؛ طريق صيدا – صور (تشرين الأول/أكتوبر)؛ راشيا (تشرين الثاني/نوفمبر)؛ جسر الغجر (تشرين الثاني/نوفمبر)؛ كفركلا (كانون الأول/ديسمبر).
رابعاً؛ انتفاضة راشيا:
وقعت في أواخر تشرين الأول/أكتوبر وأوائل تشرين الثاني/نوفمبر 1878 وكانت اكثر محدودية من انتفاضة المطلة التي سبقتها (شباط 1878) واضيق تأثيراً، إذ استمرت مفاعيلها حتى نهاية العام، وقضيتها السخرة، إذ أمسك العساكر في راشيا بغلاً لرجل من آل القزاز من ظهر الأحمر لتسخيره الى دمشق فحشد له جماعة من دروز راشيا وتضارب الفريقان وكان الضرب مبرحاً للعسكريين الذين فروا الى السرايا فاستنفر ضابطهم وأرسل 24 نفراً لتأديب الضاربين فحاولوا اعتقال محمد سيور، أول من تحشد وأغرى الجميع به، فكثر تجمع الدروز للحؤول دون ذلك ولم يفلح إطلاق النار في الهواء في تفريقهم، لا بل شجع الدروز على استحضار أسلحتهم وإطلاق النار على العسكر فجرح عشرة منهم ودرزي واحد، كما وفد الدروز من القرى المجاورة لمحاصرة السرايا، فاشتد التصادم بإمساك الدروز اثنين من العسكر وقتل العسكر، بالنار، اثنين من الدروز، ثم تدخل مشايخ بيت العريان “المشهورين بحب السلام” والشيخ يوسف زاكي للتهدئة وقد هدأت، إلا أنه استمر تحشد القوى الدرزية باتجاه راشيا في حين هرب النصارى. ولم يرد في الأعداد اللاحقة من الجريدة ما يشير الى تجدد الاشتباك، كما لم يرد في أي مصدر آخر خبراً عنها. إلا أن وقع هذه الانتفاضة كان مؤثراً، فقد استنفرت قوى السلطة فيما يتجاوز حدود القضاء، فقدم قائمقام العسكر، يوسف باك، ومعه 50 خيالاً وحسن آغا بوزق وحضر متصرف حوران، عثمان بك، ومعه 40 خيالاً ثم حضرت فرقتان من العسكر المشاة، وبعني هذا تحسباً وحذراً شديدين عند أركان السلطة بإرسالها قائمقام العسكر (العسكر المركزي) وقائمقام قضاء آخر، وبالتحديد حوران، لما له خبرة بالدروز، فضلاً عن عدد الخيالة المرسل، إذ قدر بحسابات وقته. كما حرر واثق باشا، متصرف بيروت، ومرجعيون تابعة له، إلى قائم مقاميات الأقضية حول كثرة التعديات في بعضها، على ما اتضح في حال حاصبيا وراشيا ومرجعيون، فألقى أحدهم، قائمقام صيدا، على 11 شقياً من البدو وأرسلهم الى مركز متصرفية في بيروت. وتظهر الدلالة المؤثرة للانتفاضة في التعليقات عليها؛ إذ ختمت “لسان الحال” رواية الخبر بالقول إن الدولة لا تحب زيادة المشاكل والدروز ليس من صالحهم تحريك أمر يأتي عليهم بالخسران وأردفت: “إلا ان وجود بعض الأشقياء في القضاء يكثرون الاعتداء ولا يهابون أرباب الأمور يحمل الأهالي على التحسب”. كما نشرت “لسان الحال” رسالة طويلة لمراسلها في الشام يرد فيها على القائلين نسب حوادث راشيا “لضغائن قديمة” ويردها الى عدم كفاءة المأمورين وعدم مراعاتهم الوقت والمقام وأطباع الأهالي من جهة، وتدني رواتب العسكريين من جهة ثانية، وتجاوز حدود الأمر المعطى من جهة ثالثة”. تؤشر معطيات الانتفاضة الى مشاركة سكان القرى المجاورة في التحشد، وإنْ لم تسمَ فقد كان تحشد القرى على مرحلتين: الأولى حين الحادثة ويفترض التحشد من القرى الملاصقة لراشيا، والثانية، بعد الحادثة، إبان وفود القوات الإضافية، ويفترض التحشد من قرى المنطقة كلها. ولدى التدقيق بالوثائق العثمانية في حوران يتبين وجود وثيقتين بتاريخ 10 كانون الثاني/يناير 1877، و31 أيار/مايو 1878 ووضع لهما الباحث عنوان “خلاف بين دروز حاصبيا والمتاولة (1878)، استناداً الى مندرجات الوثيقتين “تحويل البرودة والخلاف بين دروز حاصبيا والمتاولة الى احترام ووفاق”.
وما ورد في “لسان الحال” يمت بصلة لموضوع الوثيقتين مقدمة خبر عن مقتل خليل وعباس من سكان حاصبيا على جسر الغجر وتتحدث المقدمة عن التباعد بين الدروز والمتاولة. إلا أن التدقيق في الوثيقتين يردهما إلى أحداث في راشيا غير معروفة في الوثيقة الأولى 10 تشرين الثاني/نوفمبر 1877 وكذا في الوثيقة الثانية (31 أيار/مايو 1878)، وقد تكون أحداث الوثيقة الأولى الخلاف الذي أشار إليه فرو بين الفلاحين في راشيا حول الأراضي ومصادر المياه (حزيران/يونيو 1877). ففي التقرير، الرواية واضحة أكمل عثمان بك متصرف حوران التحقيقات التي كُلِّف بإجرائها في راشيا واتجه إلى قضاء القنيطرة واتخذ بانياس التابعة للقنيطرة مركزاً له والقنيطرة (التابعة لمتصرفية حوران) بينما قضاء راشيا تابع لمركز الولاية مباشرة (دمشق) ولا وجود للشيعة فيها، الأمر الذي يعني استمرار مفاعيل الحدثين اللذين عرفتهما راشيا، وقد يكون الاجتماع بوجهاء الأقضية المجاورة، وكل تابع لمتصرفية (مرجعيون – بيروت، حاصبيا وراشيا – دمشق القنطيرة – حوران) تحسباً لخلاف محتمل أو ذريعة لضبط ذيول الانتفاضتين في المطلة – مرجعيون – حاصبيا وراشيا، وبخاصة أنَّ خطوات أخرى اتخذت، ومنها تكليف نجيب بك قيس بضبط حاصبيا (تموز/يوليو 1878). وقد يبدو في وصف ما حدث في راشيا بالانتفاضة مغالاة في ذلك، وقد يكون ذلك لمحدودية المعلومات التي عُرفت عنها، لكن الاهتمام الذي أولته السلطة يقود إلى أهمية ما حصل الذي يرقى الى استنتاج وصفها بالانتفاضة وذلك لـ: -مواجهة العسكر، بحد ذاتها، وهي مواجهة ذات دلالة للهيبة التي كانت تتمتع بها قوى السلطة والقمع الشديد الذي تمارسه. -تحشد القرى المجاورة، وهي قرى تتجاوز منطقة راشيا الحالية وتمتد الى قرى حاصبيا وقرى في الاقليم (سوريا راهناً)، وقد سبق ذلك تحشد مماثل في انتفاضة المطلة استدعى الطلب الى زعماء الشوف التدخل لإنهائه. -حضور اكثر من والي الى راشيا وحشد السلطة قوى عسكرية مركزية ومن الالوية الأخرى، وما يعني ذلك من ضخامة ما حدث. -حضور الوادي الفاعل في عاصمة الولاية، دمشق، فقد سُمي الحي الذي ما زال الدروز يقطنوه في دمشق، باب مصلى، بحي التيامنة، وكان لهذا الحي حضوره في حوادث دمشقية كما كان لموقع الوادي على الطريق بين دمشق وبيروت اهمية عرفت إبان المعارك ضد قوات ابراهيم باشا وإبان الثورة السورية.
(*) نشرت الدراسة أيضاً في مجلة “الضحى” اللبنانية (مع مراجعها ومصادرها)، العدد 38، تموز/يوليو 2023، ص 47-50.