كتب أستاذ التاريخ العثماني في الجامعة الأميركيّة ببيروت عبد الرحيم أبو حسين، في جريدة “الحياة”، من ضمن سلسلة عن علاقة الدروز بالسلطنة العثمانية:
عمل الدّوق الكبير بتوصيات مبعوثه، وحصل على تعهّد من فخر الدّين مشروط بنجاح احتلال ميناء فماغوستا القبرصي. تعهّد فخر الدّين بأنه في حال نجح التّوسكانيون بالاستيلاء على هذا الميناء، أن يفتح ما تبقى من الجزيرة، ويساعدهم على الاحتفاظ بها، باعتبار أنّ وجود التّوسكانيين في قبرص قريباً منه سيمنحه المزيد من الأمان.
وكما أشير قبلاً، فشل مشروع احتلال توسكانيا قبرص، وكانت عودة البعثة التّوسكانية التي فاوضت علي جانبولاد على نصوص المعاهدة، إلى فلورنسا قد سبقت وصول التّقارير الأوّلية غير المؤكّدة حول فشل تمرّد جانبولاد. لذا، أرسل الدّوق الكبير وعلى وجه السّرعة قوّة بحريّة وجيشاً لنجدة حليفه جانبولاد، كما أوفد مرّة أخرى بعثته إلى المشرق مع تعليمات سريّة بأن تتّصل بفخر الدّين تحسّباً لاحتمال وصول جانبولاد إلى وضع ميؤوس منه. فضّلت البعثة هذه الخطّة لقناعتها بأنّ فخر الدّين يفضّل المسيحيين على الأتراك الذين يكرههم، علاوة على أنّ الأمير الدّرزيّ كان من أصل مسيحيّ.
ولدى وصول البعثة التّوسكانيّة إلى قبرص، كانت قد تأكّدت هزيمة جانبولاد وفراره واستسلامه للسّلطان العثمانيّ. بناءً عليه، واصلت البعثة طريقها إلى بيروت لتقابل فخر الدّين، وتسلّمه الألف بندقيّة التي كانت قد أُعدّت أصلاً لجانبولاد، وعقدت معه اتفاقية تتعهّد فيها تقديم الدّعم العسكريّ لأمير الدّروز. أصرّ فخر الدّين خلال المفاوضات على أن يصدر البابا أمراً لكلّ مسيحيي المشرق بأن ينضووا تحت إمرة الأمير، وتقديم المساعدة له عندما يطلبها تحت طائلة الحرم الكنسيّ، كما طالب بتعهد التّوسكانيين بأن يقدّموا له ملجأً في بلادهم إذا دعت الحاجة.
في كانون الثّاني (يناير) 1609، وجّه البابا بيوس الخامس رسالة إلى فخر الدّين «أمير الدّروز ونيكوميديا وفلسطين وفينيقيا»، مثنياً عليه لمعاملته الجيّدة للمسيحيين بعامّة والموارنة بخاصّة، واعداً إيّاه بالدّعم «ضدّ الأتراك الغاشمين بحيث تتخلّص بلاد الشّام من حكمهم وعندئذ يمكن السّكان العودة إلى الدّين الصّحيح». وبعث مع الرّسالة هدايا إلى الأمير. ووجّهت رسالة أخرى من بيوس الخامس إلى بطريرك الموارنة، وزعماء الموارنة المدنيين تطالبهم بالتّعاون مع فخر الدّين.
لم يخف أمر تحالف أمير الدّروز مع توسكانيا وأهميّته على العثمانيّين أو غيرهم من المراقبين المهتمّين بالمنطقة، فيقول الرّحالة الإنكليزي جورج سانديس الذي زار بلاد الشّام في 1610 بعد فترة قصيرة من إبرام المعاهدة مع التّوسكانيين: يقال أنّ من المؤكّد أنّ الأتراك سيحوّلون كلّ قواتهم ضدّه (فخر الدّين) في الصّيف التّالي (1611)، لذا فإنّهم أكثر استعداداً للقبول بالصّلح مع الفرس.
لكن، يبدو أنّ فخر الدّين لم تقلقه الشائعة، ومع ذلك استمرّ بإرسال الهدايا إلى السلطان، واكتساب ودّ المقربين منه، وإبداء فروض الولاء والطّاعة له، لثقته الكبيرة بقلاعه الحصينة التي جهّزها وموّنها جيّداً استعداداً لحرب طويلة، إضافة إلى المنعة التي يوفّرها له موقعه في الجبال. كذلك، كان لديه أكثر من أربعين ألف جنديّ محترف، يدفع لهم رواتبهم على الدّوام، بعضهم مسلمون، وبعضهم الآخر مسيحيون. وفي أسوأ الأحوال، أمامه البحر ليوصله إلى أصدقائه الفلورنسيين. ويضيف: كثيراً ما كان السّلطان يهدّد بإخضاع تابعه الأمير، لكنّه كان يؤجّل الأمر مازحاً بالقول أنّه لن يزعجه هذا العام. ولم يكن التّوسّع الذي أحدثه فخر الدّين ما أثار غضبه (السّلطان) بل اتصالاته بالفلورنسيين (التّوسكانيين) الذين يوفّر لهم ملاذاً آمناً في مرفأ صور (بينما يدّعي بأنّ المرفأ خرب ومهجور، لذا لا داعي للدّفاع عنه). فهم يرسون في المرفأ للتزوّد بمياه الشّرب وشراء أهمّ المنتوجات ويؤمّنون له (فخر الدّين) ما يحتاج إليه (من سلاح)، والمخطّطات الخطيرة التي تمّ التّداول بها والاتفاق عليها بينهما (فخر الدّين وتوسكانيا) والتي كانت معروفة من بعض التّجار. وأنا على قناعة تامّة بأنّه لو أتيحت الفرصة، وتابعها المسيحيون كما يجب، فسيهزون ركائز قوّة الإمبراطوريّة العثمانيّة إن لم يقضوا عليها قضاءً تامّاً.
وعلى رغم أنّ التّحالف والعلاقات الودّية بين فخر الدّين وتوسكانيا لم تسفر عن نتائج فوريّة مباشرة، واصل الطرفان التّعاون بعد وفاة الدّوق الكبير فيريناند الأوّل في 1609. فقد تابع ابنه وخليفته كوزيمو الثّاني (1609 – 1621) سياسة والده في العداء للعثمانيّين، معتمّداً على الحلفاء أنفسهم في بلاد الشام: الدّروز بقيادة المعنيين، والموارنة. في غضون ذلك، حدث صيف 1609 تطوّر لم يكن في الحسبان، بدا كأنّه بشرى خير للمشاريع التّوسكانيّة. فقد لجأ الأمير يحيى، المطالب بالعرش العثمانيّ والابن المفترض للسّلطان محمد الثّالث (1595 – 1603) وأخو السّلطان المتربّع على سدّة الحكم إذّاك، أحمد الأوّل (1603 – 1617) إلى بلاط آل ميديتشي ليصبح محور الخطط الصّليبية الجديدة ضدّ الأراضي العثمانيّة. وأمر كوزيمو الثّاني في الحال بتحرك أسطوله إلى المشرق برفقة الأمير يحيى، آملاً بانضمام كلّ المتمرّدين في الأراضي العثمانيّة تحت راية هذا الأمير. وفي الوقت نفسه، كتب إلى فخر الدّين مذكّراً إيّاه بالصّداقة بينه وبين والده الرّاحل، وأعلمه بأنّ قائد بحريّته سيطلعه على تفاصيل المشروع المهم الذي يجري تنفيذه، ويحثه على الانضمام إلى هذا المشروع الذي سيعود عليه وعلى بلده بمنافع كبيرة. إلّا أنّ هذا المشروع لم يتحقّق أبداً، ولم يقيّض للأمير يحيى اللّقاء بفخر الدّين.
كما أنّ العلاقات الطّيبة بين فخر الدّين والبابويّة استمرّت أيضاً. ففي رسالة مؤرّخة في 25 أيلول (سبتمبر) 1610 من البابا بولس الخامس إلى البطريرك المارونيّ يوحنا مخلوف، أعاد البابا التّذكير بالرّسالة البابويّة في 1510، وأثنى على الموارنة لتمسكّهم بالإيمان الصّحيح على رغم عيشهم «بين الهراطقة والكفرة»، «كالوردة بين الأشواك»، ومدح أيضاً فخر الدّين «حيث تمّ إعلامنا بشجاعته، وبراعته العسكريّة، وعداوته الشّديدة للترك، ومحبّته لكم [الموارنة] ولكلّ المسيحيين، وعن اعتزازه بكونه سليل قائد صليبيّ». ثمّ يطالب البابا البطريرك بأن يرعى الصّداقة مع فخر الدّين كي يستمر الأخير ببسط حمايته على الكنيسة والطّائفة المارونيّة. وتتضمّن الرسالة الإعراب عن الأمنية الخالصة بأن تؤدّي كراهية فخر الدّين للتّرك، ومحبّته للموارنة، لجذبه إلى المسيحيّة. واختتم البابا بالإلحاح على البطريرك بأن ينتهز فرصة استعداد الأمير لاعتناق المسيحيّة، وأن يبذل قصارى جهده لبلوغ هذه الغاية.
وكما كانت للموارنة علاقات قويّة مع آل ميديتشي في توسكانيا، كانت المراسلات المتبادلة منتظمة بين فلورنسا ومقر البطريرك المارونيّ في وادي قنّوبين شمال لبنان. وقدّم الموارنة مساعدتهم في خدمة المصالح التوسكانية في المشرق مقابل الرّعاية والعطف اللذين شملهم آل ميديتشي بهما. كذلك فقد بذلوا مساعيهم الحميدة في المفاوضات التي أدّت إلى التّحالف الجديد بين فخر الدّين وتوسكانيا.
كان فخر الدّين من جهته مهتمّاً أساساً بالدّعم البابويّ الذي يستطيع أن يؤمّنه البطريرك المارونيّ، وكان يعتقد أنّ دعماً كهذا يضمن له مساعدة القوى الكاثوليكية كافّة. وقد اقترح فخر الدّين بالتّشاور مع البطريرك مسوّدة معاهدة، أرسلت إلى فلورنسا والبلاط البابويّ من طريق أسقف قبرص المارونيّ. وقد أكّد موارنة جبل لبنان في هذه المسودة أنّ لديهم ما لا يقلّ عن ثمانية آلاف جنديّ مارونيّ ينتظرون الفرصة ليحرّروا أنفسهم من «العبودية التّركيّة»، وادّعوا أيضاً وجود مقاتلين موارنة على أتمّ الاستعداد في طرابلس وحلب وفينيقيا ونيقوميديا والقدس، ومناطق أخرى في فلسطين، وفي أنطاكية. وأضافوا أنّهم في حاجة إلى السّلاح فقط للانضمام إلى الحملة العسكريّة المقرّرة ضدّ العثمانيّين. وتضيف مسودة المعاهدة أنّ فخر الدّين لديه جيش قوامه سبعون ألف جنديّ، وقد اتّفق مع الزّعماء المحليين الآخرين على أن يسمحوا للجيش المسيحيّ بالنّزول في موانئ صور وصيدا وطرابلس. كما تتضمّن الوثيقة أيضاً خطّة لفتح جزيرة قبرص بمساعدة سكّانها المسيحيين، بمن في ذلك الموارنة.
من المهم هنا أن نشير مجدداً إلى أنّنا عند البحث في سيرة فخر الدّين بصورة خاصّة، والمعنيين بصورة عامّة، إلى أنّ المؤرّخ والبطريرك المارونيّ الذي عاش وكتب في النّصف الثّاني من القرن السّابع عشر، إسطفان الدّويهي، كان بالتّأكيد على علم بالمراسلات بين أسلافه مع البابا والدّوق الكبير لتوسكانيا، إلّا أنّه لزم، كما يبدو، الصّمت المتعمّد حول مسألة العلاقات التّوسكانيّة المعنيّة، وحول دور الموارنة في مشاريع فتح قبرص والأراضي المقدّسة. وكذلك فعل المؤرّخ الشّخصيّ لفخر الدّين أحمد الخالدي الشّاهد المعاصر للحوادث في العقود الثّلاثة الأولى من القرن السّابع عشر، فقد تجنّب ذكر مسألة العلاقة المعنيّة التّوسكانيّة، وصور الصّراعات اللّاحقة بين فخر الدّين والسّلطات العثمانيّة كما لو أنّها نتائج دسائس حقيرة قام بها خصوم الأمير المحلّيين، وكذلك خصومه في البلاط العثمانيّ.