بقلم فضيلة الشيخ ماجد أبو سعد في مجلة “العمامة” في تموز 2022:
بسم الله الرحمن الرحيم
سُمّي العيد عيدًا لأنّه يعود بالفرح والسرور، وكلّ يوم لا يُعصى الله تعالى فيه فهو يوم عيد، أي يوم فرح حقيقي لأنّ فيه مرضاة مَن هو قادر على إسعادك وعلى أشقائك إن رضي أو سخط وفي رضاه والق رب منه أعظم السعادة.
والدنيا مزرعة الآخرة والجائزة التي وُعد بها الصالحون منذ فجر الدنيا هي مكافأة الآخرة، وهو يوم غائب عن حسّهم، ولكنّهم بالغيب مصدّقون وبيوم الجزاء موقنون.
وفي الدنيا فرح للطائعين بطاعتهم كفرح المسافرين في صحراء التيه في ركبٍ جمعتهم رحلة ومعهم زاد السَّفر، ونور يستضيئون به في الليلة الموحشة، وأعلام تدلّهم على المسير حتّى يطلع الصباح، ويحمد القوم السُّرى.
وزادهم أعمالهم، ونورهم كتابهم، وأعلامهم علماؤهم، فهم على بصيرة من أمرهم ويقين أنهم يسلكون درب النجاة، فهم في خبر اليقين بالموعود والآخرة عين اليقين بتحقيق الوعود.
فكان لا بدّ لرحلة الجهاد السعيدة من تجسيد، فَعُبِّر عنها بأيام مباركات أقسم الله تعالى بحرمتها وفضيلة العمل فيها، وهي العشر الأُوَل من ذي الحجّة كما قال تعالى “وليالٍ عشر”. فهذه الأيّام تمثّل مسيرة الترقّي في دار الدنيا.
ويوم التتويج وقطف الثمار، وإعلان الفرح الكلّي عُبِّر عنه بالعيد الذي يتكرّر في الدنيا كل عام ترتقي النفس الطائعة فيه درجة على سلّم الصعود حتّى تبلغ ذروة عطائها في القيامة فتنال الخير العميم من ربّها الكريم.
إنّا أعطيناك الكوثر
قال تعالى لنبيه الأكرم: إنّا أعطيناك الكوثر فصلِّ اربّك وانحر إنّ شانئك هو الأبتر” هي دعوة للنبي بالصلاة والنحر شكرًا على ما تقدّم من عطيّة المنعم عربون ثقة بالعطاء الكلّيّ في الآخرة ما لا أذن سمعت ولا عين رأت ولا خطر على قلب بشر. ويعود الموحّدون بهذا التفضُّل الابتدائي إلى تجلّي المولى الكريم في زمن الفطرة “ألستُ بربّكم قالوا بلى.”
وقال المفسّرون ومنهم البيضاوي بأنّ الصلاة والنحر صلاة عيد الأضحى خالصة لوجه الله والنحر بالبُدْن التي هي خيار أموال العرب. وقد قال تعالى في حديث قُدسيّ: يا عبدي أنا كريم فكن كريمًا، أنا رحيم فكن رحيمًا، أنا شكور فكن شكورًا.
فإذا كان تفضّله سابق منه تعالى على الطاعات والقربان أي قدّم لنا إحسانه قبل أن نشكره على إحسانه، وأوعد بالمجازاة في قوله: أنا شكور فكن شكورًا لأنّ الشكر منه تعالى المجازاة، وما قوله تعالى لئن شكرتم لأزيدنكم إلا اشتراط للزيادة بعد الشكر على ما تقدّم من إحسان منه كعربون ثقة ليقوى التصديق بالإحسان الجميل المنتظر.
وجاء الحديث القدسيّ مطابقّا لسورة الكوثر بقوله تعالى: “مًن أهان لي وليًّا فكأنّما بارزني بالمحاربة، وما تقرّب إليّ عبدي بأفضل ممّا افترضت عليه ولم يزل عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتّى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها …”
الحديث القدسي فسّر الولاية له تعالى بأنها تقرّب إليه بالمفترضات، ولكن الذي يذوق طعم العبادة يتوق إلى الزيادة بالنوافل التي بها يتحبّب إلى الله فيعبده رغبة وشوقًا وحبًّا وأنسًا لمجالسته: أنا جليس مَن ذكرني.
فصلاة الحبّ وقربان الودّ لا شرط لهما إلا إحساس عميق بقيمة العطاء والتذاذ واغتباط وفرح به أي عيد سعيد وفي كلّ عامٍ جديدٍ بنيل المزيد ممّن لا تنفذ عطاياه.
وإذا كانت الآية الكريمة: إنّا أعطيناك الكوثر حصرت تولّيه تعالى بصلاة العيد ونحر البُدْن الذي هو التضحية، فالموحدون جُلّ حياتهم تضحية وختام أوقاتهم أعياد متجدّدة وهذا هو الأضحى بأسمى معانيه.
كل صلاة طاعة هي عيد، وكل قريان طاعة هو عيد لمن يفقه معنى القرب بالذكر والبذل في سبيل الله، لأنه استيداع في خزائن الملكوت يراه بعين اليقين من كل من المعنيين وهي سمة المتّقين وعنهم قال ربّ العالمين: “إنّ المتّقين في جنات وعيون”.
جنات علوية وعيون كوثرية روحيّة آخذين ما أتاهم ربّهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار يستغفرون وأموالهم حقّ للسائل والمحروم”.
فتهجدهم وصلاتهم إحسان لأنفسهم، وبِرّهم بإخوانهم ايضًا إحسان لهم حتّى يفيض الإحسان العميم عليهم “فلا تعلم نفس ما أُخفي لهم من قرّة أعين جزاءً بما كانوا يعملون.”
أنفس القرابين
لقد كانت قصّة سيدنا يوسف الصديق عليه السلام في تاريخ الإنسانيّة أحسن القصص المعبِّرة، وفيها ثلاثة قرابين تمسّ حاجتنا لها في كل حين.
قربان التوبة: توبة إخوة يوسف الذين تحوّلوا بفضل باريهم من الأنا والأثَرة إلى الإيثار والتضحية بقولهم له عندما أبقى بنيامين “خذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين” ففدوه بأنفسهم بعد أن أغراهم الشيطان بإبعاده ليستأثروا بحبّ أبيهم وقالوا تائبين: إنّا كنّا خاطئين “.
قريان يعقوب: أعلى منه، قربان الصبر الجميل دون اعتراض أو شكوى مع عظم البلوى، وأثمرت مسيرة الصبر والثبات كرامة اللقاء في عزّ وهناء إنها دعوة لنا في صعوبة هذه الفترة أن نقبض على ديننا كالقابض على الجمر المضرم صبرًا ويقينًا لنظفر بكنز الجنة.
وقربان يوسف: أعلى القرابين بالعفو والمسامحة “لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين” معما ألحقوا به من أذى انه خلق ربوبي رفيع يرفع مَن يتخلّق به إلى الأشرف الأعلى كما رُفع يوسف على اخوته وأبيه وأمه متبوّءًا عرش العزّ الأسنى. يوافقه الحديث الشريف “صِلْ من قطعك وأعطِ من حرمك واعفُ عمّن ظلمك وفي كل واحدة منها عيد اضحى يفوق كل تقدمة.
والسيد المسيح عليه السلام الذي جاء بشريعة الرجاء قال: “كما تدينوا تُدانوا وبالكيال الذي به تكيلون يُكال لكم”. وكأنه لخّص دعوته المباركة بكلمة واحدة هي المسامحة أضاء نورها في الكتاب العزيز في سورة النور المباركة وليعفوا وليصفحوا ألا تحبّونه أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم”.
فليقتدِ العباد بربّهم في العفو والصفح عن المسيئين إليهم ونعم أجر العاملين.