شكّلت الثورة السورية الكبرى، أو ما يعرف بثورة جبل العرب والتي اندلعت في العام 1925 في سوريا، منعطفاً استثنائياً في مسار الانتداب الفرنسي على سوريا، حيث عُدَّت تلك المرحلة من أشد الحقبات عنفاً في تاريخ نضال الشعب السوري، الذي أدى إلى اعتراف فرنسا ببعض حقوق سوريا ولبنان السياسية. إذ يقول الكاتب عمر فروخ في جريدة البيان في العدد 6027 تاريخ 17 شباط 1951: “إن البطولة الدرزية في الثورة السورية كانت من الأسباب المباشرة لاعتراف فرنسا بقسم وافر من الحقوق السياسية لسوريا ولبنان ولاعلان الحكم الجمهوري في سوريا ولبنان معا”.
فكثيرا ما صُوِّرت تلك الثورة على انها عمل سلبي وردة فعل على الإدارة الحاكمة آنذاك، واعتبرتها بعض المصادر ثأرا للكرامة الدرزية التي أهينت في المفوضية الفرنسية في بيروت على أثر أحداث أمنية وسياسية حصلت في عدد من قرى السويداء. وفي الواقع أن هذا التصوّر سطحي وساذج، وإن كان لا يخلو من الحقيقة، خصوصا أن أسباب الثورة أكثر عمقاً مما ذكر، وأشد تعقيداً من بعض الظواهر، لأنها كانت تهدف إلى هدم حكم قائم من أجل بناء حكم جديد اكثر ملاءمة مع طبع أهالي الجبل وعاداتهم وتقاليدهم، حكم لا يتعارض مع كرامتهم ومعتقداتهم وحسن جوراهم مع اخوانهم في الوطن، لأن حريتهم لا تضمن الا بضمان حرية وكرامة جيرانهم واخوانهم في الوطن، ويكون حكما قادرا على قيادة البلاد الى الاستقلال وحرية تقرير المصير للتحرر من الوصاية الفرنسية.
وعليه تطوّر الهدف من استقلال محلي إلى استقلال شامل وموسع، في حين انه ونتيجة المفاوضات بدأ بعض قادة الثورة محاولاتهم للتوفيق بين النظريتين الفرنسية والسورية بما يضمن لسوريا استقلالها ولفرنسا مصالحها، حتى أن كلمة سوريا كان ثمة نزاع على تحديدها بين سوريا الطبيعية وغيرها من التسميات، فضلا على التفسيرات المتعدد لكلمة الوحدة والاتحاد التي رافقت الثورة. ورغم عدم نضجها السياسي والقومي إلا أن الثورة استطاعت ان تحقق اصلاحات في جهاز الادارة الفرنسية والمحلية.
هزت الثورة السورية فرنسا بعنف، وأثارت فيها موجة من التفكير الجدي بترك البلاد، وكان من نتيجة ذلك ايجاد حياة دستورية في لبنان ثم في سوريا.
انطلاق الثورة
انطلقت الثورة السورية الكبرى في جبل العرب في سوريا ضد الاستعمار الفرنسي في 21 تموز من العام 1925 بقيادة قائد الثورة العام سلطان باشا الأطرش يسانده ثوار جبل العرب في جنوب سورية، والتحق بهم عدد من الثوار من مختلف مناطق سورية ولبنان والأردن. تصدت الثورة للسياسات التعسفية والدكتاتورية والعسكرية التي انتهجتها السلطات الفرنسية التي كانت تسعى لتفتيت سوريا وتقسيمها الى دويلات عدة، وخنق الحريات وملاحقة واعتقال الوطنين والاحرار اضافة الى سياسة التحريض المذهبي وخلق النعرات الطائفية وتغيير هوية الطابع العربي والعروبي للجبل، فضلا عن رفض سلطات الانتداب وضع برنامج زمني لاستقلال سوريا.
سلطان باشا
سلطان باشا الأطرش، هو القائد العام للثورة السورية الكبرى، ولد في قرية القريّا في محافظة السويداء في منطقة صلخد في سوريا في العام 1888 من عائلة الأطرش الدرزية، والده “ذوقان بن مصطفى بن إسماعيل الثاني” مؤسس المشيخة الطرشانية عام 1869، وعرف عنه أنه كان مجاهداً وزعيماً محلياً قاد معركة شرسة في منطقة الكفر عام 1910، وهي إحدى معارك أبناء الجبل ضد سامي باشا الفاروقي، والتي كانت تشنها السلطنة العثمانية على جبل الدروز لكسر شوكته وإخضاعه لسيطرتها، وقد أعدمه الأتراك شنقاً بسبب تمرده عام 1911، أماّ والدة سلطان فهي “شيخة بنت إسماعيل الثاني”.
وفي بيان له أعلن سلطان باشا الأطرش تأييده للثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين قال فيه: “لم نتخذ قرارنا بتأييد الشريف حسين عن فورة عاطفية أو هوى، وانما لأننا نستلهم من تاريخ طائفتنا الطويل مواقفها السياسية والحربية المماثلة ضد العناصر الاعجمية التي تمكنت بنا في الداخل، والغزاة الطامعين الذين اتوا لاستعمارنا وسلب خيراتنا من الخارج” وعلى إثرها جند الأطرش مجموعات من شباب بلدته ومن القرى المجاورة في الجبل لتكون طليعة الجيش العربي في تحرير دمشق، وفي 5 أيلول عام 1918، زحف سلطان باشا الأطرش إلى دمشق مع قوات الجيش العربي، واشترك في معركة تلال المانع قرب الكسوة، وكان في طليعة القوات التي دخلت دمشق قبل وصول الملك فيصل ببضعة أيام، ورفعت العلم العربي على دار الحكومة وعلى دار البلدية في ساحة المرجة في دمشق.
إلى السلاح أيها الوطنيون
وفي 21 تموز من عام 1925، أشعل سلطان باشا الأطرش لهيب الثورة السورية الكبرى ببيان أذاعه وجاء فيه: “إلى السلاح أيها الوطنيون إلى السلاح تحقيقا لأماني البلاد، إلى السلاح تأييدا لسيادة الشعب وحرية الأمة، إلى السلاح بعدما سلب الاجنبي حقوقكم واستعبد بلادكم، ونقض عهودكم ولم يحافظ على شرف الوعود الرسمية، وتناسى الأماني القومية”، وخلال الثورة خاض الأطرش معارك كثيرة ومنها معركة الكفر في 20 تموز عام 1925 ومعركة المزرعة في أول آب عام 1925 ومعركة المسيفرة والسويداء، وقد هزت هذه المعارك سلطات الإنتداب الفرنسي، وجدت نفسها أمام مأزق كبير فلجأت إلى إرسال آلاف الجنود إلى سورية ولبنان مزودين بأحدث الأسلحة مقابل قلة مصادر تموين الثوار، مما أدى إلى قلب الميزان لصالح الفرنسيين، فأعادوا سيطرتهم على كثير من المدن التي حررها الثوار.
منذ احداث ميسلون وولوج قوات الانتداب الفرنسي الساحل السوري في العام 1920، شهدت سوريا أحداثا امنية وانتفاضات وعصيانا شعبيا في عدة مناطق سورية رفضا للانتداب وممارساته واستمرت تلك الاحداث الى نهاية حزيران من العام 1927، ورغم قدرة سلطات الانتداب على حسم المعركة لصالحها بالطائرات واستقدام الجيوش والاعتدة والاليات العسكرية والضرب بالنار والحديد ورغم تكبدهم خسائر جسيمة إلا أن ثورة العام 1925 زعزعت سياسة الفرنسيين واجبرتهم على اعادة توحيد سوريا ووقف مخطط تقسيمها واجراء انتخابات برلمانية مهدت لجلاء الفرنسيين من سوريا في العام 1946.
حملات الفرنسيين
دفع الفرنسيون بكل قوتهم من أجل تشديد خناقهم على الثوار، فاستقدموا حملات كبيرة وطلبوا مساندات جديدة، فارغموا الثوار للنزوح إلى الأزرق في إمارة شرقي الأردن، ولم يمكنهم الإنكليز من المكوث طويلاً، فانتقل سلطان باشا الأطرش وجماعته من المجاهدين إلى وادي السرحان والنبك في شمال المملكة العربية السعودية، ثم إلى الكرك في الأردن، وكان قد رفض الاستسلام او تسليم سلاحه إلى المستعمِر، فحكم عليه بالإعدام.
الى أرض الوطن عاد سلطان باشا الأطرش ورفاقه، بعد أن أصدرت فرنسا عفواً شاملاً عن كل المجاهدين اثر توقيع المعاهدة السورية الفرنسية عام 1936، واستقبل سلطان ورفاقه في دمشق في 18 أيار عام 1937 باحتفالات شعبية كبيرة.
نصف مليون مشيّع
وفي 26 آذار عام 1982 أسلم القائد سلطان باشا الأطرش الروح عن عمر ناهز 91 عاماً، وكان مأتمه يوماً تاريخياً مشهوداً حشد أكثر من نصف مليون من المشيعين، وحمل نعشه في طائرة مروحية حلّقت فوق مواقع المعارك الخالدة التي خاضها ودفن في قريته القريّا محمولاً على عربة مدفع.
عرف عن سلطان باشا الأطرش تمسكه بالعادات والتقاليد والقيم والشهامة الأصيلة، فكان لا يسكت على ضيم، ولا يقبل اهانة الضيف، ولا يبخل على الوطن والامة بشيء يملكه، وقد قيل فيه كلام كثير، وكان الشاعر القروي رشيد سليم الخوري أحد الذين تأثروا بثورته، فقال يخاطبه.
خففتَ لنجدة العاني سريعاً غضوباً لو رآك الليثُ ريعا
وحولك من بني معروف جمعٌبهم وبدونهم تُفني الجموعا
وثبتَ إلى سنام التّنكِ ثباً عجيباً علّم النسر الوقوعا
وكهربت البطاحَ بحدّ عضب بهرتّ به العدى فهووا ركوعا