لسؤال الهوية وجه آخر حين يتحول إلى إشكالية تطرح مأزقية العقل العربي عند مستهل القرن الماضي، في تصديه لحاضر كان مأزوما حينها بخسارة ضياع البلاد وتمزق الأمة وتشظي مفهوم العروبة، وقلق على مستقبل تصاغ فيه أسئلة الآتي بأدوات الماضي وإرهاصاته.
قبل ثلاث وتسعين عاماً طرح أمير البيان الأمير شكيب أرسلان سؤالا شكّل عنوانا لكتاب أصدره في العام 1930 “لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟”، السؤال الذي اقتحم الوعي العربي كان كفيلا لأن يتحول إلى دينامية فكرية وثقافية أسست فيما بعد لمشروع تحرر وحركة نهضوية وضعت كل شيء موضع المساءلة ، وقوام هذا المشروع استنهاض النخبة النهضوية، وتحقيق الوحدة العربية والقومية، وتأطير سبل مواجهة الاستعمار الغربي خصوصا الفرنسي والانكليزي. فكان سيف الكلمة أمضى من بندقية الطغاة، فحمل أفكاره وطاف فيها في الاقطار العربية وفي أصقاع العالم وفي المنافي لأكثر من ربع قرن من النضال خارج الوطن مبشرا ومحركا لوجدان ومشاعر وعقول الشعوب العربية والاسلامية، إذ ساعدته شاعريته ولغته المتينة وقدرته اللغوية وفصاحته على الاقناع والتأثير والتحليق في مدارات التاليف والكتابة في الصحف والمجلات واصدار الكتب والمؤلفات حتى اضحى علما من أعلام الفكر العربي المعاصر وفارسا من فرسان الكلمة فلقب بأمير البيان.
ولادته ونشأته
ولد الأديب والمفكر اللبناني شكيب أرسلان في 25 كانون الثاني من عام 1869 في مدينة الشويفات لعائلة تنتمي إلى الطائفة الدرزية وكان يمارس عبادته على طريقة أهل السنة. وكلمة شكيب تعني بالفارسية الصابر، وأرسلان تعني بالتركية والفارسية الأسد. اشتهر بلقب أمير البيان، لغزارة كتاباته ومؤلفاته وعمق رؤيته ومتانة لغته وجزالة ألفاظه، فذاع صيته بوصفه واحدا من المفكرين والأدباء الكبار،ويعد من أبرز الدعاة والمنظرين للوحدة العربية والإسلامية. وأرسلان هو جدّ الزعيم وليد جنبلاط لوالدته الست مي ارسلان.
كان شكيب أرسلان محبا للعلم. التحق بمدرسة الحكمة في بيروت، فدرس اللغة العربية على يد عبدالله البستاني فأتقنها وتبحر فيها، وكتب الشعر والنثر والمقالات،وأجاد اللغات التركية والفرنسية والألمانية، إلى جانب علومه الدينية.
تأثر شكيب أرسلان بكبار المفكرين والادباء وعلماء اللغة والفقهاء، ومنهم الإمام محمد عبدو ومحمود سامي البارودي،ومحمد رشيد رضا،وعبدالله فكري، وبالشيخ ابراهيم اليازجي والشاعر أحمد شوقي، واسماعيل صبري. لكن تأثره اللافت والكبير كان بالسيد جمال الدين الأفغاني خصوصا لجهة تبنيه منهجه الفكري ومفهومه السياسي، وبدا ذلك من خلال حماسته لتأييد الخلافة الاسلامية والدولة العثمانية في مرحلة البدايات.
تألم شكيب أرسلان من الواقع العربي والاسلامي المترهل، ومن حال الاستسلام للغزاة والمحتلين الطغاة، فأيقن أن الخروج من هذا التقوقع والتشرذم العربي لا يكون إلا بقيام وحدة عربية متكاملة من أجل مواجهة مخططات تفتيت واضعاف واستسلام الامة العربية، ليتسنى لهم السيطرة الكاملة على لبنان. فاستشرف ارسلان في وقت مبكر الخطر الكياني لتلك الممارسات لذا دعا إلى مواجهتها والى التصدي للاستعمار، مصوبا سهام مقالاته باتجاه الاستعمار الفرنسي معربا عن قناعاته بان لا خلاص إلا بتحقيق الوحدة العربية، الأمر الذي جعله عرضة للاضطهاد والملاحقة عبر حملات شرسة من التشويه والافتراءات وصولا إلى النفي، لا سيما أن ثقته كانت معدمة بوعود الحلفاء للعرب، لأنهم لا يريدون الخير لهم، بل جلّ همهم مصالحهم واستعمار الشعوب.وقد صحت توقعاته مباشرة بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى فظهر خداع الحلفاء للعرب جليا من خلال نواياهم ضدهم،وممارساتهم الاستعمارية ،لذا بقي مطاردا وملاحقا، فالاتراك طاردوه لاهتمامه بقضايا العرب، والفرنسيون والانكليز لاحقوه بسبب دفاعه عن شعوب الأمة العربية وكشف فظائعهم وفضح جرائمهم ضد الشعوب العربية والاسلامية، فابتعد عن الدول العربية وعن لبنان وتنقل بين روسيا واسبانيا واميركا وروما وسويسرا، إذ كان يستقبل بحفاوة اينما حل وينشر مقالاته وكتاباته في صحف تلك الدول .
دعم الثورات
دعم شكيب أرسلان معظم الثورات العربية التي قامت ضد الاستعمار، وذكرت مصادر أنه شارك شخصيا في القتال في ليبيا ، كما دعم بشكل كبير الثورة السورية ضد الفرنسيين ووقف الى جانب الثورة المغربية، واتهمته المخابرات البريطانية بالتنسيق مع الحكومة الالمانية للتحريض لقيام انتفاضة في العراق وسوريا والاردن وفلسطين.
ألّف شكيب أرسلان عشرات الكتب، منها كتابه المشهور “لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟، كما كتب عن رحلة حجه “الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف”، والف “تاريخ الترك” تعليقا على تاريخ ابن خلدون، و” الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية” في 3 أجزاء، وله تعليق على حاضر العالم الإسلامي للوثروب ستودوارد في 4 أجزاء، حيث بلغت الشروح والحواشي 4 أضعاف الكتاب الأصلي، حتى أصبح الأصل يعرف بها لشهرتها.
ومن كتبه أيضا: “شوقي أو صداقة أربعين سنة”، وأصدر ديوانه “ديوان الأمير شكيب أرسلان”، و”تاريخ غزوات العرب”.
عمل في الصحافة وأصدر في برلين عام 1921 جريدة “لواء الإسلام” التي كانت تهدف إلى إحياء الدعوة إلى الجامعة الإسلامية بعد انهيار دولة الخلافة العثمانية، وأصدر في جنيف مجلة “الأمة العربية” بين عامي 1930 و1938 بالفرنسية، بالاشتراك مع إحسان الجابري، وبلغ عدد مجلداتها 50 مجلدا.
وإذ وقف المنفى حائلا بينه بين مواصلة الكفاح ضد المستعمر، فلم يمنعه ذلك من النضال على جبهة الثقافة والفكر، فاستمر نشاطه في التأليف وكتابة الشعر والنثر وتألق في فن الخطابة تاركا ليترك ارثا كبيرا عبارة عن مئات الرسائل والقصائد الشعرية والكتب المتنوعة.
مسيرة إنجازات
بعد 77 عاما من الكتابة والتأليف والثورة على الظلم منها ثلاثون عاما في المنافي، توفي شكيب أرسلان في التاسع من كانون الأول عام 1946 في بيروت بعد رحلة طويلة من التعب والاغتراب والتنقل من دولة الى دولة . لكنه عاد محققا حلمه الذي طالما راوده في ايام مرضه الطويلة وهو ان يدفن في تراب وطنه لبنان وان لا يرفرف علم فوق قبره الا علم بلاده، فكان لعودته الى وطنه والى منزله وملاقاة امه وعائلته الاثر البليغ في نفسه، حيث استقبل بحفاوة بالغة واقيمت له الاحتفالات واللقاءات والولائم، في وقت، كانت قواه قد استنزفت، وفي آخر مشوار حياته ترك وصيته الأخيرة “أوصيكم بفلسطين” فرحل شكيب ارسلان ولم تجد الوصية من ينفذها فضاعت فلسطين، مثلما ضاعت قبلها الأندلس التي زارها ارسلان في جولاته اثناء اغترابه ونفيه..
خلال أسفاره الكثيرة، التقى شكيب أرسلان الكثير من المفكرين والأدباء، وكان له محطات بارزة من لوزان بسويسرا إلى نابولي في إيطاليا إلى بور سعيد في مصر، واجتاز قناة السويس والبحر الأحمر إلى جدة ثم مكة، وسجل في هذه الرحلة كل ما رآه وقابله.
يعد شكيب ارسلان من أوائل الدعاة إلى إنشاء الجامعة العربية، ففي أعقاب الحرب العالمية الأولى مباشرة دعا إلى إنشاء جامعة عربية، ولما أنشئت كان سروره بها عظيما، وكان يرى فيها ملاذا للأمة العربية من التشرذم والانقسامات، وسبيلا إلى نهضة عربية شاملة في جميع المجالات العلمية والفكرية والاقتصادية.
كان شكيب ارسلان على علاقة مميزة مع الملك عبد العزيز آل سعود، فقد منح الجنسية الحجازية السعودية وقتذاك.