أولاً: في معنى العيد:
العيد سُميَ عيداً لأنه يعود بالفرح والسرور على أهله، فأصل المعنى الاصطلاحي للعيد هو كل يوم فيه جمعٌ، فالعيدُ فرحةٌ متأصلة في قلب كل إنسان. والبشرية منذ أن وجدت وأخذت ترتقي في سلم الحضارة والتقدم، وحددت الزمن بمواقيت، جعلت لها محطات من أجل الترويح عن النفس عند كل مناسبة سعيدة وأطلقت على تلك المحطات اسم العيد فالعيد مظهر يشتمل على عدّة معانٍ اجتماعية ودينية.
في المعنى الاجتماعي، العيد هو يوم تجديد وتمتين للروابط الاجتماعية على أساس من الحب، والوفاء والإخاء. في هذا اليوم يتذكر الغني أخاه الفقير، والقوي الضعيف، فيتصدق الناس الخيّرون وعندها تشمل الفرحة كل بيت، فلا تُشرق شمس العيد إلا والبهجة تغمر القلب والبسمة تعلو الشفاه.
أما في المعنى الديني، فالعيد هو شكر لله على تمام العبادة، كلمة لا يقولها المؤمن الموحد بلسانه فقط بل تعتلج في قلبه رضاً واطمئناناً لتظهر في علانيته سروراً وابتهاجاً.
ثانياً: أعياد طائفة الموحدين الدروز:
ليس لطائفة الموحدين الدروز أعياداً خاصة، وبما أن هذه الطائفة هي إحدى الطوائف الإسلامية، فإن عيد الأضحى المبارك يحظى بأهمية كبيرة. إذا كان الفطر بعد الصيام هو فرح بمائدة الطعام في الدنيا وهو رمز لفرح الطائعين الصابرين بريّ النفوس من رؤية الملك القدوس في الآخرة. فالأضحى هو العيد الأكبر حيث يأتي بعد مشقة الحج والتقرب إلى الله بالقربان المفروض.
ثالثاً: عيد الأضحى:
عندما يهل هلال شهر ذي الحجة من كل عام، تجري العادة لدى أبناء طائفة الموحدين الدروز على القيام بالعديد من الواجبات الدينية والاجتماعية، فتنبث في نفوسهم حركة سعي تفوق الحركة الاعتيادية فيقصدون بِنِيَّة البركة والاستفادة إلى المجالس والخلوات والمقامات والمزارات والمشايخ الأجلاّء طلباً لسماع التلاوة المباركة والمذاكرات الدينية.
وتستبرك معظمُ العائلات بصنع “نُقْل العيد” في البيت بهجةً وفرحة، وتتبادل “المجابرة” والزيارات والمعايدة استبراكاً في هذه المناسبة السنوية لتصفية القلوب وتجديد الصِلات وجمع الشمل وتقبل التهاني، آخذين بقوله تعالى} وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ {[سورة المائدة2]{ .
بالإضافة إلى ما تقدم، يُستحب أن ينذر الموحدون الأيام العشرة الأولى التي تُسمى “عشور العيد” من الشهر المبارك للعفة والصوم والصلاة وزكاة أموالهم بالصدقات والحسنات، ويلهجوا بالدعاء والاستغفار ابتغاءً لمرضاة الله بالأعمال الصالحة واستشعاراً بقدوم العيد الكريم.
كما يحي الشيوخ والمريدون لياليهم بالمجاهدة والتلاوة والاستغفار مستحضرين الآية الكريمة: }وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ{[سورة الفجر 1-2]، متمثلين الإحرام في جوارحهم وأفئدتهم سبيلاً إلى أن تكون نواياهم صافية لاستكمال معنى الأضحية.
مِحوَرُ مقاصد “الأضحى” من الناحية الدينية هو الضحيّة التي يتوجّب تقديمُها إلى الله سبحانه وتعالى قرباناً إليه ودلالةً على طاعته، وإثباتاً دامغاً لاستعداد المخلوق للتخلي عن جميع ما يملكه من متاع الدنيا ومقتنياتها لأجل الخير بكل معانيه، ومنها النفورُ من كلّ ضدّية، والائتناسُ بكلّ لطافة روحية.
والقربان إسم لكل ما يتقرب به إلى الله تعالى، عرفه الإنسان منذ أيام الجاهلية. وقصة هابيل وقابيل التي هي خير شاهد على أهمية القربان، هي القصة الأولى في مسيرة الأنبياء منذ عهد آدم (ع). فقيل أن قابيل أراد ارتكاب معصية فنهاه أخاه هابيل، فلما تنازعا قال لهما والدهما قرِّبا قرباناً لله فمن قبل الله قربانه يُقبل قوله. فتقرَّب هابيل، وكان راعياً، بخير كبشٍ في غنمه فتقبَّل الله قربانه. وتقرب إلى الله قابيل، وكان مزارعاً، بأردأ ما كان عنده من القمح فلم يتقبل الله قربانه. ولما علم والدهما بالخبر هنأ هابيل وعزى قابيل وقال له تُب إلى ربك فغضب قابيل غضبّاً شديداً وقال لأخيه هابيل لأقتلنّك.
نستدل من هذه القصة على الإقرار بوحدانية الخالق تعالى، والاعتراف برُسُله وأنبيائه والنهي عن المحرمات والمخالفات، كما تُمَثِّل صراع النفس بين الخير والشر.
ولا بد لدرك معاني الأضحى في المفهوم الإسلامي من العودة إلى سنّة النبي إبراهيم (ع) الذي عاش قبل الإسلام بألفين وخمسماية عام تقريباً، إذ رأى إبراهيم (ع) في منامه رؤيا أن الله تعالى يأمره بذبح ولده، ورُؤيا الأنبياء “وحي”. فما كان من نبيّ الله إبراهيم(ع) بعد أن استيقظ من النوم إلا أن سَارع لتنفيذ أمر الله تبارك وتعالى دون تردد، فقال لولده لننطلق ونقرِّب قرباناً إلى الله عز وجلّ، فأخذا سكيناً وحَبلاً وانطلقا حتى سارا بين الجبال فقال له ولده يا أبت أين قربانك؟ فقال له إبراهيم (ع): }إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ { [سورة الصافات] (102) فاستسلم الغلام وقـال }يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ{[سورة الصافات] (102).
فلما أسلما أي انقادا لأمر الله فإذا بصوت ينادي إبراهيم (ع): }قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ – إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ – (أي الاختبار الظاهر) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ{ [سورة الصافات 105 – 106- 107]، لقد أرسل الله عظمت قدرته لإبراهيم بذبحٍ وهو كبشٍ عظيم ذبحه فداء عن ولده.
وخيرُ ما يستدل من هذه القصة الطاعة لله عز وجل والرضى والتسليم لمشيئته تعالى.
نعم الأضحى صلاةٌ ونحر أي تقدمة على سبيل الشكر. وقد قال المفسرون بأن الصلاة والنحر فسِّرتا بصلاة العيد، وهي الصلاة الخالصة لوجه الله، والنحر هو التضحية بأفضل الأنعام من خِيار مالِ العرب، لذلك كان لا بد للإنسان أن يقدم أفضل ما عنده لله تعالى.
قال الله تعالى لخاتم الأنبياء وسيِّد المُرسلين (صلعم)، } إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ{[سورة الكوثر 1-2]، هي دعوةٌ للنبي(صلعم) للصلاة والنحر، شكراً على ما تقدم من عطية المولى بالخير الكثير، ودليلٌ على أن وعد الله محتوم، والدنيا فرصة العطاء، وما قوله تعالى: }لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ{[سورة النساء 147] إلا اشتراط للزيادة بعد الشُكرِ على ما تقدم من إحسان منهُ.
وقد ورد في حديث قدسي: يا عبدي أنا كريم فكن كريماً، أنا رحيم فكن رحيماً، أنا شكور فكن شكوراً. والأضحى هو تجسيد للحديث في أسمى صُوَرِهِ، وكل صلاة طاعة هي عيد، وكل قربان طاعة هو عيد، لمن يفقه معنى القرب بالذكر والبذل في سبيل الله، لأنه استيداعٌ في خزائن الملكوت يراه بعين اليقين من كان من المحسنين، وهي سمة المتقين، وعنهم قال جل شأنه: } إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ{ [الحجر 45]. وقال أيضاً: } كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ – وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ – وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ{ [الذاريات 17-18-19].
وإذا كان معنى القربان التقرُّب إلى الله والافتداء من عذاب جهنَّم، والمؤمن يُقَدِّمه في الأضحى، فانه احتفال يتجاوز الحدودَ التاريخية ليكون عيداً بفرح الآخرة التي لم يأتِ زمنها بعد، وهي أبديّة لا انتهاء لها، أي لا تاريخ يحدِّد نِهايَتَها.
وإذا كان لا بُدَّ من فِديةٍ وتضحيةٍ تليق بنيلِ الفرحِ السَّرمدي، فإن لحوم الأنعام ودماءها – وان كانت واجبة التقديم – فإنها لا تكفي لأنها من عالم الفناءِ، والجوهر الأبقى هو النَّفس الإنسانيَّة التي يبشِّرها الله إن بيعت له بنعيمٍ دائمٍ باق لا يفنى فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم.
إن الإنسان بين تخيير وتسيير، مُخيَّر في كل ما هو ضمن طاقاته، وإمكانياته العقلية والجسدية والنفسية وغيرها، وبذلك يكون مسؤولاً تجاه خالقه ومجتمعه. وقد عرفنا سبحانه[1] وتعالى مفهوم القيامة بأن هذه الدنيا دارٌ فانٍ ومحطةٌ مؤقتة توصل إلى الدار الآخرة الباقية وذلك أمرٌ محتوم وعد به سبحانه وتعالى في كثيرٍ من آيات كتابهِ الكريم ولعل الحكمة من تغييب وقت الساعة لكي يبقى الإنسان في يقظة وعجلة إلى الاستغفار والتوبة حيث قال }لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا{ [سورة الكهف21]، وقال أيضاً }وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ { [الأنبياء47]..
فأعمال الإنسان هي ميزان ربحه وخسارته، وأعماله الصالحة في الدنيا تجمع له في الآخرة. وكم نشعر أننا بحاجة إلى فعل التضحية بكل صدق في حياتنا اليومية وفي مسيرة مجتمعاتنا وأوطاننا والإنسانية جمعاء من اجل تأكيد إنسانيتنا شباباً وكباراً، كلٌّ منّا في مجاله وضمن طاقته، العامل في عمله، والمعلم في عطائه، والتاجر في تجارته، والإداري في معاملته، والطالب والمراهق في تفتحه وتعلمه ونموه، والمرأة ورسالتها في الحضانة والتربية والتهذيب. أوليس الواجبُ يدعونا للتضحية ولافتداء الإنسان في داخل كـلِّ واحـدٍ منّـا، لقوله تعالى: }فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ { [سورة الزلزلة 7].
والواجب على أبنائنا أن لا ينسوا تراثهم وعاداتهم العريقة والشريفة التي تربوا عليها وتأصلت في جذورهم وأعماقهم. ونرى في هذه المناسبة أن نُذكِّر بثوابت تُرشد السائلين إلى مذهب التوحيد الذي يرتكز على مبادئ الإيمان بالعدل الإلهي، والتقيد بالحدود التي وضعها الله سبحانه وتعالى للبشرية، واجتهاد الإنسان الذي هو اشرف المخلوقات في العلم والعمل، واعتماد العقل والحكمة والاعتدال في الأقوال والأفعال، والتمسك بالفضائل والشرف والتقوى في الأعمال والتمييز بين الحلال والحرام، والرضى والتسليم في كل حال.
صدرت عن مكتب مشيخة عقل طائفة الموحدين الدروز-بيروت بمناسبة قدوم عيد الأضحى المبارك للعام 1429هـ الموافق للعام 2008 م.
أعاده الله عليكم بالخير واليمن والبركات.