الدروز أصولهم عربية. والمعروف أن العرب قدموا إلى سوريا الطبيعية قبل الفتح الإسلامي في موجات متعددةـ وهجرات جماعية قبلية.
وقد أقاموا حضارة في سورية، ذات الماء والسهول الخصبة والأنهار، والمناخ الجيد. والشاهد على ذلك مملكة تدمر في بادية الشام، التي بلغت في قرونها الثلاثة قبل الميلاد، أوجاً عالياً في التجارة والسياسة والقوة، متحكمة في الطريق التي تربط الشرق والغرب.
وآثار تدمر كافية للدلالة على عظمة هذه المملكة العربية التي طبقت شهرتها الآفاق، أيام الملكة زنوبية.
كما أنشاً الأنباط العرب دولتهم التي امتدت حتى دمشق بما فيها مدينة صلخد وجرش. وذلك في القرن الثالث قبل الميلاد، رابطة طريق التجارة بين البحر المتوسط والخليج. وكانت عاصمتهم البتراء. وأقام العرب كذلك مناطق حكموها باسم القبيلة في أماكن متعددة في سورية الغنية، كالغساسنة والمناذرة حتى أصبحت هذه البلاد في أكثريتها الساحقة ملكا للعرب القادمين من الصحراء التي أقفرت بعد أن كانت خصبة تجري فيها الأنهار، وبعد خراب سد مأرب، وتدل رمال الصحراء على أخاديد ومجارٍ للأنهار.
وكان وجود القبائل العربية الكثيرة في سورية، دعماً للفتح الاسلامي الذي كان يقوم به العرب باسم الإسلام. فساندته القبائل العربية السورية مساندة فعالة، بدافع العرق والدم. إلى أن أصبحت سورية مركز الخلافة العربية أيام الأمويين. ففرٌّ منها أولثك الذين كانوا على علاقة مع البيزنطيين، وحلّ محلهم العرب من قادمين جدد وقدماء.
إذاً، بعد أن عرفنا أن الموجات العربية السامية إلى سورية بأكملها كانت متعددة ومتلاحقة. فمن السهل بناءً على ما كتبه المؤرخون معرفة حقيقة ذلك من أسماء بعض المناطق التي دخلها العرب وسميت باسم القبيلة؛ كديار بكر في حوض دجلة الشمالي، وديار ربيعة قرب الموصل، وديار مضر على نهر الفرات، وكذلك نزلت قبائل تنوخ قادمة من الحيرة، في منطقة حلب بما فيها جبل السماق. كما نزلوا في اللاذقية. ولما ظهرت دعوة الموحدين الذين عرفوا بالدروز، اعتنقتها قبيلة تنوخ سنة 1017م في حلب وفي المناطق الساحلية السورية شمالاً وجنوباً.
الدروز عرب أقحاح
يتضح من ذلك أن الدروز عرب أقحاح. وقد حافظوا عبر الأجيال على دمهم العربي محافظة تامة، لأنهم لم يتزاوجوا مع شعوب أخرى باسم الدين. لذلك بقيت متأصلة فيهم السمات العربية المتوارثة عن جدودهم.
وهم يعودون بأنسابهم إلى قبائل طي ولخم وجذام العربية.
كتبهم عربية، ولغتهم التي يتكلمون بها في حياتهم العامة عربية. وقد برز فيهم كتاب بارعون وشعراء وعلماء لغة عربية قديماً وحديثاً. وهم في الحقيقة لا يمزجون العروبة بالإسلام. فليس كل مسلم عربياً، وليس كل عربي مسلماً.
وهذا أمر بديهي معروف. وليس خافياً على الناس عدد الدول الإسلامية غير العربية، وبعض العرب المتجذرين بالعروبة وليسوا مسلمين.
لسنا الآن في معرض شرح ذلك لأنه خارج عن بحثنا.
فالدروز لا يمكن أن تقول أنهم غير عرب، أو مناوئين للإسلام. وإن كانوا يفهمون إسلامهم على طريقتهم لهم مفاهيمهم الروحية الخاصة في بعض نواحيها.
هل من لغز؟
وقد أساء المؤرخون في دراستهم عقيدة الدروز، فسماها بعضهم اللغز، وهي في الحقيقة لغز على من لم يبلغ درجة المعرفة الكافية، ولم يتعمق في تاريخ الفلسفات الروحية والإنسانية .
هناك رأي سائد أن الدروز كانوا جماعة حرب فقط. ولم يكونوا من أصحاب الزراعة والتجارة والفنون إنه رأي لا يستند إلى الحقيقة. فقد تعاطى الدروز في مناطقهم الزراعية على أكمل وجه، فكانت مورداً هاماً لمعيشتهم. ولو عدنا إلى القرى اللبنانية التي كانت ملكاً لهم، لرأينا مشاريعهم الزراعية واهتمامهم بالري وبإنشاء الآبار والأقنية، من خلال آثارهم التي ما يزال بعضها ظاهراً للعيان.
وربما كان سبب انتشار هذا الرأي بين الناس، أن أصحاب الأراضي كانوا يعاملون فلاحيهم معاملة رفق وحسنى واحترام. مما جعل الناس لا يفرقون بين المالك والعامل. وهذا أمر طبيعي عند الدروز، لأنهم لم يقتنوا العبيد فقد ألغى معتقدهم الرق. وربما كان الحاكم بأمر الله هو أول من أعتق العبيد وألغى الرق.
فالعلاقة الإنسانية التي كانت سائدة بين المالك والفلاح، واحترام العمال واعتبارهم مساوين في خلقهم وإنسانهم وكرامتهم لأي مالك، جعلت الناس يقولون إن الدروز لم يكونوا أهل زراعة. ونسبوا العمل الزراعي لفلاحين ليسوا منهم، وهذا خطأ تاريخي. فالمزارعون في البداية كانوا دروزاً. وما زال الدروز حتى يومنا هذا يتعاطون الزراعة في قراهم.
تجارة الدروز
أما التجارة، فقد تعاطوها على أكمل وجه كذلك خارجياً وداخلياً، أيام التنوخيين والمعنيين. فقد امتدت علاقاتهم التجارية خارج الحدود، إلى مصر وإيطاليا وفرنسا وقبرص، وكانوا بارعين في تسويق بضائعهم، ومعرفة الأصناف التي تلاقي رواجاً خارج بلدهم.
وكانت بيروت مرفأهم العام أيام التنوخيين. كما كانت أيام المعنيين ميناءهم علاوة على صيدا. أما دمشق فكانت ممر تجارتهم إلى الشرق العربي.
وكانت تجارتهم تقوم على منتوجاتهم الزراعية وصناعاتهم من الزيت والقطن والصابون والرماد والحرير وعلى الأعمال الفنية والخطوط والزخرفة على الخشب، وصياغة الذهب الذي كانوا يستخرجونه من أراضيهم في سفوح بسوس ومنطقة بيصور، وجوار الأنهار وأعماق الأودية.
كما استخرجوا الحديد واستغلوه تجارياً، علاوة على الفحم الحجري. وقطعوا الصخور متفننين في نحتها بالرسوم والخطوط. وما زالت آثارهم ظاهرة للعيان في ما خلفوه من آثار.
ويعتبر الأمير عز الدين جواد التنوخي من عبيه أول من اعتنى بالمنمنمات والخطوط الدقيقة. فكان أول خطاط كتب على حبة الأرز. واشتهر كذلك بصنع النبال، حتى أنه اخترع قوساً يطلق سهاماً متلاحقة على طريقة الرشاش اليوم.
حافظ أبو مصلح – كتاب “تاريخ الدروز في بيروت وعلاقتهم بطوائفها”