خاص “كيان 24”
ما فاض وجه بنور سماوي، مثلما فاض نور وجه العارف بالله، وولي الله، المرجع الروحي لطائفة الموحدين الدروز الشيخ أبو حسن عارف حلاوي. وما شعّ ايمان بقلب مثلما توهج في قلب المتيقن بالله سيد الجزيرة. وإذا كان تقى العرفان والتوحيد هو نسيج تلك الشعشعانية، فلا بد لهذا الفيض أن يبلغ منزلة علوية يصير فيها العارف عارفا من أهل النظر والايمان، معرفته اليقينية موازية لمسلكيته العرفانية.
والشيخ الجليل والمرجع الروحي أبو حسن عارف حلاوي ولي من الله سكن وجدان الموحدين الدروز وعقولهم، واستوطن مشاعرهم على مدى عقود طويلة. وانسحب هذا الأمر على غير الدروز ليصبح رمزا دينيا ووطنيا وايمانيا جامعا، وصمام أمان روحي. تميز بورعه وتقواه وحكمته وتأمله العميق وزهده وترفعه وعفويته، حتى قيل ان فيه شيئا من أسرار الله، فتحول منزله المتواضع البسيط الى محجة للدروز ومقصد للمؤمنين بعرفانه وتقواه ومسلكه التوحيدي.
العمامة المكولسة
الشيخ أبو حسن عارف حلاوي شيخ درزي من أهل التوحيد ولد في سنة 1899 في بلدة الباروك الشوفية، ونشأ وتعلم في بداية حياته فيها. أحب الأرض فعمل في الزراعة مع عائلته، وتعلم أصول كتابة الخط العربي ليعزز موهبته في كتابة الخط الجميل. كان محبا للدين تواقا إلى معرفة الكثير عن مذهب التوحيد والكتب السماوية، فنهل من الكتب ومن كبار رجال الدين في قريته ومنطقته، مصغيا إلى أحاديثهم ودروسهم وأناشيدهم الروحية والدينية، فحفظ الكثير ومما حفظه المعلوم الشريف، وتمكن من فهم العلوم الدينية واصول التوحيد، حتى صار مرجعا من المرجعيات الدينية منذ مطلع ثلاثينيات القرن الماضي حيث توج بالعمامة المكولسة وهو في سن الخامسة والثلاثين على يد المرجع الشيخ الجليل المرحوم أبو حسين محمود فرج، المعروف حينها انه حجة التوحيد والأب الروحي لطائفة الموحدين الدروز ومن فقهاء المذهب والمرجعية الصالحة للبث في معظم شؤون الناس.
يعد الشيخ ابو حسن عارف حلاوي من أرفع المرجعيات الدينية وأكثرا تأثيرا في النفوس عند طائفة الموحدين الدروز ان في لبنان او في سوريا وفلسطين. ومن أبرز ما قام به اثناء الحرب الاهلية اللبنانية دعوته لاتحاد المؤسستين الدينية والسياسية بشكل كلي، ورمى الحرم الديني على كل من تعامل او يتعامل من ابناء الطائفة الدرزية مع العدو الاسرائيلي وذلك بعد الاجتياح الاسرائيلي في العام 1982.
وكان في مسيرته الطويلة وعمره المديد لاكثر من قرن، قد عاصر العثمانيين والانتداب الفرنسي ومعظم الحروب والأحداث التي مرت على لبنان وصولا الى الاجتياح الاميركي للعراق، فكان دائم التفاؤل والهدوء والرصانة، ولطالما أدخل الطمأنينة الى قلوب الناس في اصعب المراحل وفي زمن الحروب والقصف لا سيما في الاجتياح الاسرائيلي للجبل.
العارف بالله
كان يسمع كثيرا ويتحدث قليلا فيخرج كلاما حكميا، فيه من تجارب السنين وخبرة الحياة ما يستحق ان يكون درسا ملهمة في الحياة. لكنه لم يدونها في كتب او منشورات بل بقيت على ألسنة الناس وفي ذاكرتهم حتى جاء الشيخ سُلطان القنطار، فجمع ما حفظ من أخبار ووثائق وقصاصات مكتوب عليها، وصدر في كتاب بعنوان :” العارف بالله، الشيخ أبو حسن عارف حلاوي، سيرة حياته” وذهب ريع الكتاب الى “مدرسة الإشراق” في المتن، وهي حكم واقوال ومآثر لطالما كان لها الوقع الكبير في طريق السالكين على هدى التوحيد.
حصار الجبل
ومن الروايات المُحقّقة التي تناقلها الناس لسنوات بعد حصار الجبل انه وفي أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان وحصار الجبل، لم يغادر الشيح أو حسن عارف حلاوي منزله لاكثر من سنة، حيث تعرّضت بلدة معصريتي ا التي كان يقيم فيها لقصف عنيف وسقطت حينها على البلدة أكثر من 600 قذيفة، لكن المفاجأة كانت، انه لم يُصب أي شخص من ابناء البلدة بأي أذى، وهم يعتقدون ويؤمنون بأن “بركة” الشيخ أنقذتهم، وفي أحد أيام الحصار جاءه ضابط إسرائيلي طالبا اعتقال أحد شباب القرية، فرفض الشيخ، والحّ الضابط وتحدّاه بنبرة قاسية، فاكتفى الشيخ عارف حلاوي بالقول: “روح الله لا يوفقك”، وما ان خرج الضابط من عنده حتى انقلبت به سيارته وأصيب بجروح خطيرة، فروى لزميله الإسرائيلي الحكاية قائلا: “إن في معصريتي شيخا اسمه أبو حسن عارف، إيّاك أن يغضب منك فيكون مصيرُك مثلي”.
محجة الدروز
اقترن الشيخ عارف حلاوي بالست زهر، دون اية علاقة ولم ينجب اولاداً. والست زهر هي كريمة المرحوم الشيخ ابو حسيب أسعد الصايغ الشخصية المرجعية المعروفية المعروفة في تلك المرحلة، فأخذ الشيخ ابو حسن مكانته واصبح ركنا مهما من اركان التوحيد، فحول مقر سكنه في بلد عمه والد قرينته في قرية معصريتي الى مقر ديني ومرجع لابناء الطائفة حتى ان بلدة معصريتي باتت محجة لرجال الدين من مختلف المناطق اللبنانية ومن سوريا وفلسطين المحتلة ومن جبل العرب والأردن، ومقصدا للزعماء والقادة.
في مرحلة الحرب الأهلية بذل الشيخ عارف حلاوي جهودا كبيرة لوأد الفتنة ووحدة الصف ونبذ التفرقة والتعصب والخلافات متصديا للمؤامرات التي كانت تحاك ضد لبنان وبين ابناء شعبه. فكرس حياته للعبادة وحث الناس على عمل الخير والمحبة والتسامح ونشر الفضيلة، وكان يشاركهم افراحهم واحزانهم ومناسباتهم الاجتماعية دون تكلف أو تأفف، فعاش قانعا راضيا ببساطة العارف وشخصية الواثق، وقد روي عنه مآثر عدة واخبار مشوقة ووثيقة الصلة بالمجتمع الدرزي وطبيعة القرى حتى أن امورا فيها معجزات قد حصلت واصبحت حكاية كل بيت.
انتقل الشيخ الجليل الورع الديان الى جوار ربه في بلدته الباروك يوم الاربعاء السادس والعشرين من شهر تشرين ثاني 2003، فسلّم الروح لخالقها، وتم دفنه في منزله في اليوم التالي بحضور مئات الالوف من المشيعين من مختلف المناطق اللبنانية ومن سوريا ومن بعض بلدان الجوار.
وبرحيله خسرت طائفة الموحدين الدروز مرجعا كبيرا من مرجعياتها الروحية الكبيرة، لكنها ربحت على مدى قرن مسيرة شيخ مؤمن ترك ارثا كبيرا لم تزده السنوات الا توهجا وحاجة في هذا الزمن الصعب.
وتحوّلت حجرته في منزله في الباروك الى مزار يقصده الناس للتبرّك.