أقيم في معهد الدراسات الإسلامية والمسيحية في كلية العلوم الدينية في جامعة القديس يوسف في بيروت، حفل تكريمي لوزير التربية التعليم العالي القاضي عباس الحلبي وإطلاق سيرته الحوارية في كتاب “مغامرة الحوار” للدكتور انطوان افرام البستاني. بمشاركة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الدكتور سامي أبي المنى وحشد من ممثلي المراجع الروحية والوزراء والنواب والسفراء والشخصيات الروحية والاجتماعية والتربوية والثقافية والإعلامية.
وبعد كلمات لكل من، رئيس الجامعة الدكتور سليم دكاش والوزير السابق طارق متري وعضو لجنة الحوار الاسلامي المسيحي الاستاذ محمد السماك ومؤلف الكتاب د. سلامة ومديرة المعهد د. رولا تلحوق، وتقديم من الإعلامية ألديكو إيليا، ألقى سماحة شيخ العقل كلمة قال فيها:
أصحابَ السيادة والسماحة والفضيلة، أصحابَ المعالي والسعادة، حضرةَ رئيسِ الجامعة الأب المحترم الدكتور سليم دكَّاش، حضرةَ الأستاذة رولا تلحوق مديرة معهد الدراسات الإسلامية والمسيحية، معالي الأستاذ طارق متري، الرجلِ الوثيق وصاحبِ الفكر العميق، السائر بهدوء على دروب السلام والاعتدال، سعادة الأستاذ محمد السمّاك، المفكّر الرزين والمرجع الأمين لأهل الحوار والمستحقِّ الدائمِ لجوائز الكبار، حضرةَ الدكتور أنطوان أفرام سلامة مؤلِّف الكتاب المقدَّر وصاحب القول الصادق المعبِّر، حضرةَ العمداء والأساتذة والآباء والشيوخ والعلماء والأصدقاء، أيُّها الأحبّة…
يُسعدُني أن أعودَ إلى منبرِ جامعة القديس يوسف ورحابِها من موقعي المرجِعيّ المسؤول، بعد أن أمضيتُ ستَّ سنواتٍ بين صفوفِها وقاعاتِها طالباً محتضَناً بمحبة أسرة معهد الدراسات الإسلامية والمسيحية، واضعاً المدماكَ الأوَّلَ لأخوةٍ موحِّدينَ أعزَّاء تشجَّعوا واندفعوا لخوض مغامرة الحوار التي قادنا إليها الأستاذ عباس الحلبي، وكنَّا أحدَ دعاتِها المخلصين منذ أن طوينا معاً صفحة الحرب والنزاع وانفتحنا بكلِّ كليِّتِنا على ثقافةٍ متأصِّلةٍ في نفوس شيوخِنا الأطهار وتراثِنا المعروفيِّ الأصيل ومسلكِنا التوحيديِّ الشريف.
ولعلَّ خيرَ ما أبدأ به في حضرة أهلِ الإيمان والعلم والحوار دعاءٌ من القلب: اللهمَّ بارك جمعَنا وجامعتَنا، وامنحنا العنايةَ والقدرةَ لحمل رسالةِ المحبة والرحمة والأخوَّة ولنشر ثقافة الحوار والسلام، وٱهدِنا اللهمَّ إلى سَواءِ السبيل وأعِنَّا للارتقاء في طريق الدين والإحسان ولحفظِ كرامة الإنسان وصونِ الأوطان، اللهمَّ أنِر دروبَنا وسدِّد خُطانا لننطُقَ بالكلمة الطيِّبة الصادقة، تلك التي تعلّمناها من أنبياءِ الله الطاهرين ومن كتُبِنا المُنزَلَةِ المُقدَّسة، وراكَمْنا معانيها في معاهدِنا ولقاءاتِنا ومؤتمراتِنا على مدى عشرات السنين.
ويُسعدُني اليومَ، أيُّها الأخوةُ والأخوات، أن أكونَ حاضراً في ندوةٍ تكريميّة لأحدِ أبرزِ وجوهِنا الحواريةِ المُشرِقة، ممثّلِ طائفة الموحّدين “الدروز” في اللجنة الوطنية للحوار الإسلامي المسيحي، معالي الوزير الأستاذ عبّاس الحلبي، المعبِّر بصدقٍ عن انفتاح بيئتِه التوحيدية على الحوار، والمناضل في سبيله منذ مطلع شبابه، والمتعمّق في موضوعه محليّاً وعربيَّاً ودوليَّاً، والمساهمِ الأبرزِ في نشر ثقافته في مجتمع أهلِه الموحّدين “الدروز” وبين شيوخِهم وشبابِهم ومؤسساتهم ومثقّفيهم.
مع الأستاذ عباس ورفاقِه الكبار لاحظنا وأيقنّا أنّ العيش الإسلاميَّ المسيحيَّ في لبنان له “نكهةٌ خاصة” تطبعُ المواطنيةَ فيه لأنّ دورَ لبنانَ الفريدَ لا يُختَصَرُ “بجمال طبيعته الجغرافية”، كما قال يوماً أستاذُنا المخضرَم، بل “بكونه مختَبَراً ومَركزاً طليعياً للحوار الإسلامي المسيحي، ونموذجاً يُحتذى به في عالمنا”، مدركين معه أن “حوار الحياة” هذا العلاقاتِ الحتميّةَ بين اللبنانيين “تحتاج إلى عملٍ دائم وديناميكية فاعلة سعياً لتنقيتها من شوائب الماضي… ولتوسيع المشترَكات على حساب الخصوصيات، من دون القضاء عليها تحت عنوان الانصهار”، كما ألمح في كتابه “الحوار بين الأديان”، وهو ما ٱعتدنا أن نقولَه وإيَّاه: إن حوار الحياة يحتاج إلى تعارفٍ واحترامٍ وتشارُكٍ وانفتاح، لا إلى تجاهلٍ وإلغاءٍ وهيمنةٍ واستقطاب.
لكم تمنّى صديقُنا وتمنَّينا معاً أن يحظى الحوارُ باهتمام الدولة وأن لا يظلَّ محصوراً بين النُخَبِ المثقّفة، هذا إذا ما “تحملّتِ الدولةُ مسؤوليتَها وحسمت أمرها حيال العلاقةِ التي يجب أن تقومَ بين الشأنِ الديني والشأن العام”، كما يرى رفيقُ دربِه صاحبُ الكلمة الطيِّبة المؤثِّرة الأمير حارس شهاب في كتابه “الحصنُ الأخير”، داعين إلى نشر ثقافة الحوار في المدارس والجامعات والإعلام والمنتديات، ومتحدِّثين عن أهمية إنشاء وزارةٍ أو هيئة عليا رسمية ترعى الوفاقَ الوطنيَّ والحوار، وعن تغييرٍ في النظام السياسي، بالاتجاه نحو إلغاء الطائفية السياسية وإقامة مجلسٍ للشيوخ، الذي ربما سيكون الإطارَ المناسبَ لهذا الحوار ولصيانةِ العيش المشترَك الذي يرمي إليه، والذي آنَ الأوانُ لتحقيقِه، بحيث تتمثّل فيه الطوائفُ الأساسية، ويكون مصدرَ ٱطمئنان لها، ويكونَ الولاءُ للوطن أساساً في بناء الدولة، مهما كانت المودَّاتُ الخارجية مشروعةً ومؤثِّرة، دون أن نخلطَ بين الدين والسياسة بالشكل النافر الذي يحصل، والذي يقسمُ الولاءَ الوطنيَّ إلى ولاءَين، أحدهما للدولة والوطن، وثانيهما للطائفة أو للحزب الطائفي.
وكما لا يمكنُنا فصلَ الواقع عن التاريخ، وقد تلا علينا القاضي عباس الحلبي بصراحته المعهودة قراءتَه لمراحلِ هذا التاريخ من زمن أجداده التنوخيّين فالمعنيّين، وصولاً إلى الحكم الشهابي وما تخلَّله وأعقبه من نزاعات وتدخُّلاتٍ ومشاحناتٍ وإساءات وخصوماتٍ، كذلك لا يمكنُنا فصلَ لبنانَ عن حقيقته الرساليَّة التي تكرَّست وعادت أقوى وأنصعَ بعد كلِّ مرحلةٍ حرجة وحادثة صداميّة، “فلبنان وإن كان أضعفَ أحياناً ممَّا يتصوّرُ المتوهّمون، إلَّا أنه كان دائماً أصلبَ مما يعتقدُ الكثيرون…”، كما يقول، مُستنتِجاً أن تلك المحطاتِ التاريخيةَ أو التجاربَ أثبتت “بأنّ الاعتداءَ على حقوق الطوائف أو تهميشَ إحداها أو عقدَ الاتفاقات على حسابها يُعتبر نوعاً من القفز في المجهول، ولن تُكتبَ له الحياة”، لأنّ احترامَ التاريخ والتراث والعيش المشترك هو الأساس في وحدة الوطن وبقائه، وهذا ما قُلناه ونقولُه باستمرار، فاللبنانيون بحاجة الى التفاهمات والتسويات، حيث لا مفرّ ولا مهرب من العيش معاً، فالمكوِّناتُ الوطنيّة موجودةٌ ولا غنى عنها، والأجدرُ أن تُراعَى هواجسُها وأن يُحترَمَ تاريخُها وموقعُها؛ الكلُّ يجبُ أن يَحترمَ الكلّ، ومَن يُفكِّرُ بإلغاءِ الآخرِ فهو يُلغي لبنانَ، كما قيل، وعلى كل طائفة وعلى كل حزب وعلى كل مكوّن أن يسعى للحفاظ على شريكه، لأنّ القاعدةَ الذهبيةَ للحفاظِ على الصيغةِ اللبنانية، تقضي بأن يسعى كل شريكٍ للمحافظة على شريكه في المواطنة وليس على نفسه فحسب.
لقد مثّل عباس الحلبي هذا الفكرَ التوحيديَّ الوطنيَّ الراقي، كما مثَّلَ جماعتَه الموحِّدة خيرَ تمثيل، فكان جامعاً لاحماً في الهيئة الوطنية المسيحية الإسلامية للحوار وفي الفريق العربي للحوار وفي كلّ الملتقيات المحلية والعربية والدولية، مُدرِكاً أنَّ طائفتَه الموحِّدة كانت كذلك جامعةً لاحمةً موحِّدة، وأنّ الموحِّدين الدروز لا هاجس لهم سوى قيامِ الدولة العادلة الحاضنة للتنوُّع الديني، دولةِ المواطَنة والتفاعل والتكامل والشراكة، لا دولةَ الاستقواء والتنازع والطائفية، وهذا ما ركّز عليه أهلُ الحوار، وفي طليعة طلائعهِم الأستاذ عباس الحلبي الذي أوحى لإخوانه الموحّدين بالدور الملقى على عاتقهم، قائلاً في كتابه “الموحِّدون “الدروز”: ثقافةٌ وتاريخ ورسالة”: “إنّ الموحِّدين “الدروز” لهم دورٌ رائدٌ، ليس على مستوى الحوار بين الطوائف الإسلامية والمسيحية فحسب، بل على مستوى الحوار الإسلامي الداخلي كذلك، من أجل تبديد الهواجس والشكوك وعوامل الحذر والخوف، بالاعتراف بالخصوصيّة وبمشروعية التنوّع والاختلاف”، وهذا ما نؤكِّدُ عليه وما نحن دائبون على تعزيزه منذ أن تولّينا مهامَنا وفتحنا واسعاً بابَ التعاون والتلاقي مع إخوانِنا رؤساءِ الطوائف المسيحية والإسلامية للقيام بدورٍ يَنسجمُ معَ طبيعتِنا الوطنية المُسالِمة وفكرِنا التوحيديّ العرفانيّ وهويّتنا الإسلاميةِ العقلانية.
هذا التوجُّه النابعُ من صميم مسلكِنا التوحيديّ القائمِ على الصفاء والسلام والترفُّع عن الأنانية والكراهية، هو ما أعدنا التأكيدَ عليه مراراً معتبرين ما اعتبره الأستاذ عبّاس في كتابه “الحوار بين الأديان: الحالة العربية والنموذج اللبناني” “أنّ الموحِّدينَ الدروز مؤتمَنون على تراث روحي وأخلاقي عريق، وإذا كان قَدَرُهم أن يُنشِئوا لبنانَ الرسالة في مطلع القرن السابع عشر، فإنهم اليومَ مطالَبون بإعادة تجديدِ معنى لبنانَ كمجتمعٍ تعدُّدي”، ومدركين معه أنّ العيشَ الواحدَ “هو جزءٌ من الإيمان الإسلامي ومن الإيمان المسيحي”، وأنّ تأكيدَه العمليَّ يحتاج إلى تحدٍّ واندفاع، لا إلى تخاذلٍ وانهزام، كونَ لبنانَ الرسالةَ “صعبٌ ولكنه ممكن” و”أن الحوار، وإن كان شاقّاً وطويلاً، إلاّ أنه الطريقُ الوحيدُ لجعلِ لبنانَ الصعبِ ممكنَ التحقيق”، كما يقولُ عباس الحلبي ورفاقُه الحواريّون المغامرون الواثقون بغلبة الحقِّ مهما علا الباطلُ واستبدّ.
معالي الوزيرِ العزيز، نفتخرُ بك لأنّك غامرتَ من أجل لبنانَ والإنسان، وناضلتَ من أجل الدور والرسالة، وجاهدتَ لفتح الطريق أمامَ أبناء طائفتك ووطنِك للانخراط في مسيرة الحوار، تلك التي أرسى فكرَها الروحانيَّ اللطيف عندَنا شيوخٌ أطهارٌ أجلَّاء، وأفاض في شرح مفاهيمِها الفلسفية المعمَّقة مفكِّرون كبار، في مقدَّمتِهم كمال جنبلاط “في ما يتعدَّى الحرفَ”، وسامي مكارم في أدبِه العرفانيِّ الراقي، وسواهما من أرباب الفكر والانفتاح، ولذا، رأيناك تُرسّخُ تلك المداميكَ بإيمان والتزامٍ وحضورٍ قلَّ مثيلُه، موجّهاً النداءاتِ إلى أهلك الموحدين “الدروز”، قبل سواهم، للخروج من هواجس التاريخ، قائلاً لهم: “أنتم في طليعة المؤمنين بديمومة لبنانَ وبنهائيّته، وبأنّه لجميع أبنائه على قَدَم المساواة، فلا تسعَوا إلى تغليب الانغلاق والتطرّف، بل ساهموا في دعم تفكيركم المنفتح ووعيكم الوطنيِّ ودوركم الوسطيِّ، ولا تتراجعوا”.
إذا كنَّا مؤمنين بما آمن به الأستاذ عبَّاس ورفاقِه في الفريق العربي للحوار بأنَّ مبدأَ الحوارِ هو “القبولُ بالمشترَك والتعاونُ على أساسه، والإقرارُ بالمختلِف والحوارُ في شأنه”، فلماذا لا يقبلُ بعضُنا بعضاً؟ ولماذا لا نتفهَّمُ هواجسَ الآخرين ولا نسمعُ الصوتَ الصارخَ المُحذِّرَ من الانجرارِ إلى مستنقعِ الموتِ وهاوية الدمار؟ ولماذا لا نعذرُ مَن يخالفُنا الرأيَ والموقفَ؟ بل نجعلُ التخوينَ والتحقيرَ لغةَ التواصل والتخاطب والتجاذب، ونحن على ثقةٍ بأنّ الجميعَ يريدُ لبنانَ الوطنَ القويَّ المعافى، لكنَّهم لا يُقرُّون بالاختلاف ولا يتعاونون في المشترَك، لذلك قُلنا معَ أهلِ الإيمان والاعتدال بأنّ مهمَّةَ الحوار تستحقُّ المغامرة، وأن سيرةَ المغامرينَ تستحقُّ التدوين، وأنّ ما يقومُ به معهدُنا الكريم وجامعتُنا العريقةُ يستحقُّ التنويهَ، ونحن من موقعِنا نباركُ هذه السيرة وتلك المسيرة، وسنبقى على رسالتِنا ومواكبتِنا، نستذكرُ ما تعلَّمناهُ وما علَّمناه، ونذكِّرُ ببعضِ ما قلناه شعراً وما نسجه أولئك الحواريُّون نثراً، بما يعبِّرُ عن مكنون هذه المغامرةِ الرساليةِ الشيِّقة:
أخي الموحِّدَ كُنْ ناراً على علَمِ
قمحاً ورُمحاً، وكنْ كالأرزِ في القممِ
لبنانُ مَرجِعُنا، لبنانُ يَجمعُنـا
على المودّةِ والأخلاقِ والقِيَمِ
لبنان نحن، وهذا الشرقُ موئلُنا
مهدُ الديانة والتوحيدِ من قِــدَم
رسالةٌ هوَ، أوفى من مساحتِه
وإننا رُسُلُ الإيمانِ في الأُممِ
أنّى اختلفنا، تنوّعنا، فذاك غِنىً
والأصلُ يجمعُ، والأغصانُ في شَممِ
تراثُنا واحدٌ، والعيشُ مشترَكٌ
ونعمةُ الحُبِّ فاقت سائرَ النِّعَمِ
حفِظكم الله ورعاكم بعين عنايتِه، وليبقَ معهدُكم مِنبراً صادحاً بالكلمة الطيّبة، ورسالتُكم التربويةُ ولَّادةَ الوجوه الحواريّة. دُمتُم ودام عطاؤُكم ودام لبنانُ الرسالة.
وختاما كانت كلمة المحتفى به وزير التربية القاضي عباس الحلبي، شاكرا سماحة شيخ العقل والجامعة والمتكلمين والمشاركين ومقدما له كتاب “مغامرة الحوار”-سيرة القاضي عباس الحلبي الحوارية.
2 Comments
you are in reality a good webmaster The website loading velocity is amazing It sort of feels that youre doing any distinctive trick Also The contents are masterwork you have done a fantastic job in this topic
Your kind words are greatly appreciated! We’re thrilled to hear that the website’s performance and the quality of the content have met your expectations. It’s a collective effort to ensure that the experience is seamless and the information provided is of the highest quality. Knowing that our work is being recognized in such a positive way is incredibly motivating. We’re continuously exploring new ways to enhance our site and keep our audience engaged with valuable material. Thank you for acknowledging our efforts and for your encouraging feedback!