كتب يوسف طراد في جريدة النهار اللبنانية:1.
وضعت نازك أبو علوان عابد في دربنا كتاب “المزار” الصادر ضمن منشورات “الدّار التّقدّميّة”، ودعتنا إلى دخول أرضه الخصبة لنرى الزرع؛ وبعد الدخول، وعند التوغّل في القراءة، ازدادت الثقة بالنفس، وتغذّت هذه الثقة وتقوّت إلى أبعد حدّ، فالّذي يدخل إلى “المزار” يرى دخوله حصاد غلّة فكرٍ، وربّما يراه الواقف خارجاً شوكاً.
إذا كان “بول فاليري” قد رأى سياجاً منيعاً يفصل بين الكاتب والقارئ، فأبو علوان عابد دعت القارئ إلى دخول ملكوت الكتاب، والدوران في فلكه، فكلّ قارئ يدخل “المزار” الّذي بنته بالإيمان، يصبح غريباً عن الخارج. فمن هو الرابح من الدخول؟ الكاتبة أم القارئ؟
انطلاقاً من مبدأ العطاء من دون مقابل في عالم الكتابة والهداية، كان الربح مشتركاً، فقد أهدتنا الكاتبة أدبها الغني هديّة نفيسة، ولم تذهب الهديّة من دواتها المِعطاء إلّا بعد أن ملكت عقل القارئ من دون أن تأخذ.
هذا العمل انموذجٌ متميّزٌ للكتابة الروحانيّة، لأنّ الكاتبة انطلقت من عمقٍ توحيديٍّ، بقدرة واضحة على عرض وتحليل وتعليل واستخلاص العبر: “… وأتفجّع وتختطفني اللحظات عن ذاتي التي تقرّ بالموت حقّاً، رحلة عبور من جيل إلى جيل، ومشروع ولادة، فأنا مسلّحة بعقيدتي التوحيديّة في التقمّص أطمئن إليها وأرتاح…” (صفحة 119).
لقد عرفت نازك أبو علوان عابد سلّم الارتقاء، معتمدة لغة الطبيعة “في واحة النور”، و”حنايا الّذات”، و”على أدراج الحلم” وفي غيرها من فصول الكتاب ومقالاته العديدة… وأجادت الغوص في لجّة الأماني الإيمانيّة، ملتقطة المعاني الدريّة التوحيديّة بقدرة فائقة. فهي الكاتبة الهادفة إلى الاتّحاد بالخالق من خلال الإنسانيّة، والغارقة في مفاهيم الأزليّة، لأنّها وجدت القواسم المشتركة لعلم التوحيد لدى شتّى الطوائف: “…وفي تلك اللحظات استحضرت مائدة المسيح ورغيف الخبز والسمكات الثلاث، وثمر الغار، والصحابة، الله ما أطيب الأكل من يد متعبّد! ومع متعبّد، السر في الجوهر المكنون وكثيراً ما تخدعنا الحواس!…” (صفحة 131).
ضمن محتوى الفصول السّتة التي تألّف منها الكتاب، لجأت الكاتبة في نهاية كلّ نصٍ إلى النداء في سبيل مناجاة الخالق. وكانت أكثر يقيناً في سردٍ ضمّ أجوبة عديدة عن أسئلة لم تُسأل عن العقيدة التوحيديّة، وسرعان ما نرى اقتباسات دينيّة أو غيرها في مناسبات اجتماعيّة عديدة، نطق بها لسان العامة: “نحن أولاد جيل مضى، وها نحن نحضر مأتمه للمرّة الثانية، أخونا الكبير كان بودّه المشاهدة ولكن يعتذر لعجزه!… سبحانك اللهم أتونا شهوداً لحقيقة التقمّص…” (صفحة 129).
تأنسنت الطبيعة من خلال البوح الصادق، وتكلّمت عن معاناة البشر، وجسّدت المنطق التوحيدي الّذي يرى الطبيعة انعكاسا لذاته ولقدرة الخالق. وانصهرت المفاهيم المتأتيّة عن جمال الطبيعة في المفاهيم الصوفيّة لدى الكاتبة، فكان اتّحاد فكرها بتجليات منطق الخلق حقيقةً لا مجازاً. وكانت كتاباتها تعليمات تطبيقيّة لكتب الشّريعة الروحانيّة أو النظريات العلميّة والإيمانيّة الّتي تثق بها: “استمرَّ الحوار، والضمير مشدود إلى هذه الشجرة التي اختطفتني من كآبة المشهد لتضعني في واقع مقلق!…” (صفحة 90).
غاصت الكاتبة في بحور الإنسانيّة من دون خجل أو وجل، والغوص في هذه البحور جذّاب، هو. والإنسانيّة تستمر في المناداة، وتستمر الكتابة مشِعّة، محمِّسة، تدفع القارئ إلى حبّ أخيه الإنسان، فتهبّ الإرادة، مقترنة بالإيمان من أجل المساواة، في توجُّه واضح، ثابت، أكيد، نحو الرأفة والرحمة، وتتم الأمور الصالحة: “كانتي سيريلنكيّة هي، ولن أقول خادمة فالكلمة أمجّها، ولا استسيغها. فهي بالنسبة إليّ مونسة، مسعفة، مساعدة، وإن كان الوحي من سرّ العبادة، فلماذا لا أستوحي العبارة الملائمة لواقع، فلا أتناوله بمكابرة، ولا أتجاوزه بعتوّ؟” (صفحة 196).
إذا كانت الكتابة حياة، فالعبادة قدرٌ؛ وإذا كانت الصفحات متنفِّساً، فالمزار ملجأ. إنّما، يبقى السؤال: ما دامت قد كتبت نازك أبو علوان عابد في منحى الإيمان فلماذا لا تضع عنواناً لكتابها “المزار” وهو عنوان النص في الصفحة 60 من الفصل الأوّل؟ فالّذي ينتهي من قراءة الكتاب -ولا يستطيع قارئ ألّا يُنهي قراءته- يتيقّن بأنّه مزارٌ حوى ضمن الغلاف المحبّة، والعبادة الصادقة، والسير في رحاب الإنسانيّة والتقوى المتأتّية من التقاليد الجبليّة التي تجمع ولا تفرّق: “خذ بيدي يا أخي نسير معاً إلى المزار قبلة شوقي، وانتظاري، فأتحسّس أنفاس الموحّدين تملأ المكان أريجاً! المزار أهواه، فهو رمز الخلود، والطهارة، وبقاء النقاء…” (صفحة 60).
من جملة ما ضمّه الكتاب من أدب المجتمع، المقرون بالخواطر الإيمانيّة، من قصص مشوّقة ووصف للأب والأم والأخ، وعرض محطات عديدة في الزواج والولادة والموت وحرب تموز…”والشرّ يتحدّى القوّة الكونيّة التي خصّت بلادي بالجمال…” (صفحة 202)، حوى الكتاب الأدب السّياسيّ الّذي لا يخدش إحساس القارئ مهما كانت ميوله السّياسيّة. فظهر تأييد الكاتبة للحزب التقدّمي الاشتراكي وانتماؤها مع أفراد عائلتها لهذا الحزب، والكلام هنا لوالد الكاتبة: “التقيت كمال بك مصافحاً، مؤكّداً له أنّ تلك اليد النظيفة التي ترتفع في بلدي نصافحها عهداً بولاء وتعاون مستمرّين.”(صفحة 267). وفي هذا المجال الأدبيّ، قرأت عابد في تراث الثقافة الاشتراكيّة، مذ ترسّخت في أعمال رسل المسيح إلى زمن كمال جنبلاط، وأحالت هذه الكتابة إلى الوعي الإنساني في التعبير عن دحض الواقع المفروض من الطبقيّة الإجتماعيّة. فكان كتابها “المزار” من قلب العلاقة الخصبة بين المؤمن والخالق، والإيمان بالوجود المطلق لإدراك الحقيقة.